يظن كثيرون أن العمر يُقاس بالسنوات، وأن الزمن هو المرآة الوحيدة للحياة ومقياسها الدقيق. لكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير؛ فليست الأرقام في شهادة الميلاد هي التي تحدد قيمة الرحلة، بل لحظات السعادة التي نعيشها وتظل قابعة في الذاكرة، تلك الومضات الدافئة التي وعندما نُغمض أعيننا ونستعيدها تعيننا على إكمال المسير بل وتجعلنا نحيا حقًا… لا مجرد أن نعيش.
هناك من امتد به العمر طويلًا، لكنه قضاه أسير الشكوى والضجر، يرفض كل ما تهبه الحياة، فمرت عليه السنوات باردة خاوية بلا أثر ولا ذكرى. وعلى الجانب الآخر، هناك من عاشوا سنوات قليلة، لكنها كانت عامرة بالرضا، مفعمة بالطمأنينة، فكُتبت أعمارهم بعدد لحظات الفرح، فبدت أطول وأثمن من أعمار غيرهم.
إن لحظات السعادة تطيل العمر ولو كانت خاطفة، لأنها تنعش الروح وتعيد للإنسان قدرته على احتمال قسوة الأيام. وعلى العكس، فإن التوتر والقلق المتصل يجعل عمر الإنسان قصيرًا مهما طال زمنه، لأن القلب المرهق لا يقيس الزمن بالساعات، بل يقيسه بميزان الوجع والألم.
ولأننا في رحلة أراد الله سبحانه وتعالى لحكمة يعلمها هو ونجهلها نحن ألا نعرف نهايتها، فإن أجمل ما نهديه لأنفسنا أن نعيش كل يوم بيومه، دون أن نستنزف أرواحنا في قلق الغد أو حسرات الأمس. أن نوقن أن رب الخير لا يأتي إلا بالخير، وأن حسن الظن بالله يفتح أبواب الطمأنينة حتى في أشدّ العتمات قسوة.
السعادة ليست صدفة عابرة، بل قرار داخلي ينبع من الأرواح المطمئنة والقلوب الراضية.
السعادة ليست إلا لحظة نور لا نسمح أن تمر دون أن نلتقطها… ابتسامة صافية… نية طيبة… كلمة تصلح ما أفسده التعب في داخلنا.
لنحيا حقًا علينا أن ندرك أن العمر الحقيقي ليس ما كُتب في خانة الهوية، بل ما كُتب في القلب. وما أكثر الذين ماتوا قبل أن يولدوا، لأنهم لم يعرفوا معنى الفرح، ولم يمنحوا أنفسهم فرصة حقيقية للحياة.
والآن علينا أن نسأل أنفسنا بصدق:
كم سنة عشنا؟
وكم لحظة حقيقية… حييناها؟
ترى كم واحد منا يمتلك الشجاعة ليجيب على هذا السؤال بصدق؟
هذا يتوقف على رؤية كل منا لحياته وهل هو راض حقًّا أم لا.
كنت قد قرأت بالماضي أنه روي قديمًا أن في إحدى القرى كانت الأعمار تقاس بعدد لحظات السعادة لا بعدد السنين، فتجد على شواهد القبور عمر أحدهم ثلاث سنوات وآخر عشر سنوات وهكذا، وبينما يتفقد أحدهم شواهد القبور قرأ على أحدها تلك العبارة المؤلمة "مات قبل أن يولد".
لم تكن العبارة رثاءً، بل رسالة هادئة تقول:
من عاش بقلب سعيد… طال عمره ولو قصرت أيامه.
ومن عاش بلا رضا… قصر عمره ولو طال زمنه.






































