يظلّ الصراع قائمًا في داخل الإنسان بين ما يريده وما يحصل عليه، بين ما يحلم به ويتمنّاه، وما يفرضه الواقع عليه بقسوته وحدوده. صراعٌ لا ينتهي، يجعلنا نتساءل كثيرًا: هل أدركنا الحياة حقًا؟ أم أننا عشناها على الهامش، معلّقين بين دفّتي الممكن والمستحيل؟
منذ خطواتنا الأولى، نرسم لأنفسنا صورًا وردية عن المستقبل. نؤمن أن الطريق سيكون مستقيمًا، وأن الأحلام إذا صدقت النية ستتحقق كما رسمناها تمامًا. لكن الحياة نادرًا ما تسير وفق مخططاتنا. فهي تعلّمنا باكرًا أن بين الرغبة في الحصول على الشئ وتحقّيقه مسافة، وأن هذه المسافة هي واقعنا، بكل ما يحمله من ظروف، واختبارات، وخيبات، وخذلان وفرص ضائعة.
المشكلة لا تكمن في الأحلام ذاتها، بل في تصوّرنا لها. فكثيرًا ما نربط سعادتنا بتحقيق حلم واحد، أو وصولنا إلى هدف بعينه، فإذا تأخر أو تعثّر، شعرنا وكأن الحياة خذلتنا وأدارت لنا ظهرها، أو أننا فشلنا في فهمها. بينما الحقيقة أن الحياة لا تُقاس بما لم نحصل عليه، بل بكيفية الاستمتاع بما حصلنا عليه.
الدرس الحقيقي يبدأ حينما ندرك أن الواقع ليس عدوًا للأحلام، بل اختبارًا لنضجها. فبعض الأحلام تحتاج وقتًا أطول لتنضج، وبعضها يحتاج تعديلًا، وبعضها الآخر لم يكن حلمًا لنا من الأساس، بل صورة زرعها الآخرون في أذهاننا. هنا، يصبح الوعي هو الفارق بين إنسان يعيش في صراع دائم، وإنسان يتعلم كيف يصالح نفسه مع الحياة دون أن يتخلى عن طموحه.
أن تعيش بوعي وواقعية لا يعني أبدًا أن تتنازل عن أحلامك، بل أن تعيد اكتشافها من جديد. أن تفهم أن النجاح ليس دائمًا في الوصول، بل أحيانًا في المحاولة، وأن القيمة ليست فقط في النتيجة، بل في الرحلة ذاتها: فيما تعلّمته، وكيف تغيّرت، ومن أصبحت.
كثيرون يعيشون أسرى سؤال: “لماذا لم أحصل على ما أردت؟” وقليلون يطرحون السؤال الأعمق: “ماذا علّمتني الحياة حين لم أحصل عليه؟” هنا يتحول الألم إلى درس، والخذلان إلى خبرة، والفشل إلى خطوة في طريق التجربة والوعي الذاتي.
بالحياة لا يوجد ما هو سهل بالمطلق ولا ما هو مستحيلًا مطلقًا، بل مساحة رمادية واسعة، بين فن الممكن وصعب المنال، الحياة ذاتها تتشكل بقدر ما نمنحها من فهم ومرونة. من يتشبث بصورة واحدة للحياة سيتعب، ومن يتعلّم التكيّف دون أن يفقد بوصلته سيجد طريقه، حتى وإن تغيّر تفكيره أو تبدلت نظرته للأمور.
وفي النهاية، لعل أفضل ما يمكننا إدراكه لنصل إلى بر الأمان هو أن الحياة لا تُعاش على هامش الممكن والمستحيل، بل في المسافة بينهما. في تلك المسافة بينهما نصنع وعينا، وننضج، ونفهم أنفسنا أكثر. وحين نكفّ عن جلد أنفسنا لأن الواقع لم يحقق أحلامنا كما أردنا.
ومن الجيد أن ندرك أن ما نريده بالأمس قد يتغير اليوم، وما نحبه الأن قد لا يستهوينا غدًا، لذا فإن أفضل ما نقدمه لأنفسنا هو التعايش مع واقعنا والاستمتاع بحاضرنا بكل ما فيه من تناقضات، ونبدأ في سؤال أنفسنا عمّا يمكننا فعله الآن، وقتها فقط نكون قد بدأنا فعلًا في عيش الحياة… لا في ملاحقتها.







































