هذا الرقمُ الذي طَلَبْتَهُ غيرُ مُتاح، ربَّما يكونُ مُغْلَقًا، أو خارجَ نطاقِ التغطية.
رسالةٌ آليَّةٌ جافَّة، لا تحملُ مشاعر، ولا تُدركُ ما في قلبِ المتَّصل من شوقٍ أو قلقٍ أو حاجةٍ ماسَّة.
رُبَّما نشعرُ بالضِّيق عند سماعِ مثلِ هذه الرِّسالة، ولكنَّني عندما تأمَّلتُ الأمرَ مليًّا قلتُ في نفسي: ما أحوجَنا نحنُ أيضًا لمثلِ هذه الرِّسالة! أليسَ من حقِّ الإنسانِ أن يكونَ غيرَ مُتاحٍ لبعضِ الوقت؟ أن ينسحبَ قليلًا من ضوضاءِ الحياة، ليُعيدَ ترتيبَ فوضى قلبِه وعقلِه؟
كم منَّا أرهقتْه الحياةُ بضجيجِها؟ هناك من يُرهقُه صوتُ منبِّهٍ لا يرحم، يُذكِّره بجدولِ أعمالِه المزدحم، وبواجباتِه التي لا تنتهي، وفي الشارع يبدأ فصلٌ جديدٌ من المعاناة: زحامُ شوارعَ خانقة، وطوابيرُ ممتدَّة في مؤسَّساتٍ لا تُنهي معاناتَنا. كم من أُمٍّ أنهكها السَّعيُ بين بيتٍ وأبناء، وكم من أبٍ يَجري وراء لُقمةِ العيشِ رُبَّما لا تكاد تكفي يومَه ومن يعول. كم من شابٍّ أرهقتْه المقارناتُ والخيباتُ، وكم من فتاةٍ تاهتْ بين أحلامٍ كبيرة وواقعٍ يسرقُ منها الأملَ شيئًا فشيئًا.
كلُّ هؤلاء وأنا منهم، ألا يحتاجون أن يرفعوا لافتةً غيرَ مرئيَّةٍ تقول:
"الرَّجاءُ عدمُ الإزعاج… هذا القلبُ مُثقل، وهذا العقلُ يحتاجُ إلى صمتٍ طويل."
نحنُ نحتاجُ إلى لحظاتٍ نكونُ فيها خارجَ نطاقِ التغطية… بعيدًا عن الهواتف، عن الرسائلِ المتلاحقة، عن الأعينِ التي تُراقبُنا، عن الأحكامِ التي تُصدِرها العقولُ علينا بلا رحمة. نحتاجُ أن نبتعدَ قليلًا حتَّى عن أنفسِنا المُثقَلة باللومِ والتَّوبيخ.
أحيانًا لا يكونُ الحلُّ في المواجهة، بل في الاختفاءِ المؤقَّت، في عزلةٍ اختياريَّةٍ وجلسةِ صفاءٍ مع النفس، في تنفُّسٍ عميقٍ بعيدًا عن الضَّجيج، في سماعِ نبضِ قلوبِنا وهي تعودُ إلى وتيرتِها الهادئة.
ألا ترى أنه ومنذُ بدءِ الخليقةِ والحياةُ تمضي بلا توقُّف، يرحلُ من يرحلُ، ويبقى من يبقى، وتستمرُّ الحياة. ظنُّك بأنَّ ما تفعله لا يُجيده غيرُك ليس إلَّا وَهمًا؛ فبك أو بدونِك سيستمرُّ العمل، ربَّما تتغيَّر الطَّريقة فقط، وربَّما يتغيَّر الأشخاص، ولكنَّه سيستمرُّ.
بعد عدَّةِ سنواتٍ سترى ما لم تَرَه في وقتِها، ربَّما تندم، وربَّما إن عاد بك الزَّمنُ ستكرِّر نفسَ الأخطاء بنفس الأسلوب. ولكن في وقتٍ ما عليك أن تأخذَ قرارًا لا رجعةَ فيه، في وقتٍ ما يجب أن تشعرَ بنفسِك، أن تُحبَّ نفسَك ولو قليلًا، أن تقومَ بما تُحبُّ وأنت قادرٌ على فِعلِه، حتَّى لا تندمَ عندما تتاح لك الفرصةُ لفعلِ ما تُحبُّ فتجدَ نفسَك عاجزًا غيرَ قادر، وقد خذلتْكَ صحَّتُك وكلُّ من ظننتَ أنَّك تفعلُ ما تفعلُه من أجلِهم.
الآن، نعم الآن، وليس غدًا أو بعد قليل، الآن عليك أن تلتقطَ أنفاسَك، وتتوقَّف عن استهلاكِ ما تبقَّى من روحِك ومشاعرِك وأحلامِك.
إن كان في الإمكان أن تمنعوا أرواحَكم من الانكسار، فامنحوها هدنةً قصيرة، واتركوا لأنفسِكم لحظةً من العزلةِ الرَّحيمة، رُبَّما يمكنُها أن تعودَ أفضلَ وأقوى، وقادرةً على المواجهةِ والتحدِّي من جديد، بعد أن تتزوَّد بوقودِ الصَّفاءِ الذِّهني.
امنحوا أنفسَكم هذا الحقَّ… ولا تنتظروا إذنًا من أحد.