هناك فئة من البشر، إذا جُرحت لا تشكو، وإذا ضاقت بها الدنيا تكتم أوجاعها في أعماقها، فلا تذرف أي دمعة أمام أحد، وكأن الحزن عندها سرٌّ لا يجوز أن يراه العالم. ترسم ابتسامة باهتة على شفتيها لتتفادى سؤالًا بسيطًا مثل: "ما لك؟" أو "ماذا بك؟" أو "هل أنت بخير؟"؛ فهؤلاء لا يريدون أن يروا نظرة شفقة أو تعاطف في أعين الآخرين، أو ربما يتحاشون أن يكونوا عبئًا على أحد مهما اشتدّ وجعهم.
إنهم الأشخاص الذين يخفون آلامهم ببسالةٍ لا يتقنها كثيرون، يتظاهرون بالقوة بينما تنوء قلوبهم بما لا يُحتمل، يقدّمون للعالم صورة الجبل الصلد القادر على الصمود مهما عصفت به الرياح. يتركون انطباعًا بالقسوة فيمن حولهم، ومع ذلك فهم أرقّ الناس قلبًا، وأشدّهم حساسيةً، وأكثرهم احتياجًا إلى كلمة حنان ولو لم يطلبوها.
كثيرًا ما يراودني شعور غريب أن نعمة الإحساس تكاد تختفي من قواميس البشر، بل أكاد أجزم أن كائن الإنسان الحساس على وشك الانقراض، مثله مثل الديناصورات أو العمالقة.
لنعد لموضوعنا الأساسي عن تلك الفئة من الناس التي تحتمل ما لا يطيقه بشر؛ هؤلاء يتعاملون بفطرتهم دون زيف أو تمثيل، ولكن الخطأ الفادح الذي يقع فيه الكثيرون من حولهم هو الضغط على هؤلاء ظنًا أن طاقتهم لا تنفد، وأن صبرهم بلا حدود. ولو فكروا ولو لثوانٍ لأدركوا أنهم قد يغفرون مرةً ومرتين وثلاثًا، وقد يتحملون فوق طاقتهم وهم صامتون، ولكن حين يقررون الرحيل، يرحلون فجأة، بلا عودة أو حتى دون التفات خلفهم. والأشدُّ إيلامًا أنّهم إذا ابتعدوا لا يعودون. ليس عنادًا، بل لأن الجرح الذي أوصلهم إلى قرار الرحيل كان أعمق مما يُداوى.
ورغم كل ما يكابدونه، فهم لا يعرفون التخلّي. لا يستطيعون رؤية إنسانٍ في ضيق ثم يديرون ظهرهم له؛ يمدّون أيديهم دون طلب، ويسندون دون مقابل، ويساعدون دون انتظار كلمة شكر. لا يلزم أن يكون من يعينونه قريبًا أو صديقًا، فمبدأهم بسيط: من احتاجني… وجبت مساعدته.
نصيحتي لكل شخص يجد في حياته شخصًا بمثل هذه المواصفات أن يحافظ عليه. فمثل هؤلاء نادرون… نادرون جدًا حد الانقراض، ومَن يملك واحدًا منهم فقد مُنح نعمة لا تُقدّر بثمن.
لا تجعل أفراحك ميزانًا تختار به من تقترب له ومن تبتعد عنه؛ فالكثيرون يجيدون مشاركتك الفرح، لكن القليل فقط هو من يتحمّل معك مراحل الحزن والوجع. لا تخسروا مَن كان يُشكّل لكم سندًا حقيقيًا في لحظات الانكسار… فبعض القلوب وجودها أمان… وغيابها فراغ لا يملؤه أحد.
وفي نهاية الأمر… ليست القلوب التي تُظهر قوتها هي الأقوى، بل تلك التي تُخفي وجعها كي لا تثقل على أحد. فإن كان في حياتك شخص يحمل هذا النبل كله… شخص يرحل بصمت ولا يلوم، ويعطي بهدوء ولا يطلب… فتمسّك به.
فالقلوب الطيبة لا تُطالب بمكانها… لكنها حين تغادر تترك فراغًا لا يملؤه غيرها.





































