ما أقسى أن يقتل طفلٌ براءته قبل أن تكتمل ملامح طفولته! وما أشدّ وجع الزمان حين تتحول الأيدي الصغيرة التي خُلقت لتلامس التراب وتلعب بالعصافير إلى أدواتٍ للذبح والتمزيق.
حادثةُ الإسماعيلية الأخيرة لم تكن مجرد خبرٍ عابرٍ في صفحات الجريمة، بل صفعةٌ قاسية على وجه الإنسانية بأسرها.
كيف لخيالٍ صغيرٍ أن يُخطّط؟ وكيف لقلبٍ لم يكتمل أن يُنفّذ جريمةً بهذا القدر من القسوة؟ طفلٌ في الثالثة عشرة من عمره يستدرج صديقه — في العمر نفسه — إلى مصيره المحتوم، بعد أن اشترى القفازات والأكياس البلاستيكية، وأعدَّ العدةَ وكأنه مقبلٌ على مهمةٍ اعتادها الكبارُ لا الأبرياء.
إنها جريمةٌ هزّت الضمير المصري من أقصاه إلى أقصاه، وجعلتنا نعيد السؤال المرّ: إلى أين يسير جيلنا الصغير؟ وكيف تحوّل القلب الذي خُلق للحياة إلى سلاحٍ للموت؟
لقد أصبحت حوادث الأطفال مؤخرًا تُروى بلسانٍ يقطر ألمًا، لا لغرابة التفاصيل وحدها، بل لما تحمله من دلالاتٍ على تآكل الضمير الإنساني وتراجع القيم داخل الأسرة والمجتمع.
فأين الأب الذي يوجّه؟ وأين الأم التي تحتضن؟ وأين المدرسة التي تُربّي قبل أن تُعلّم؟
إن التفكك الأسري أولُ أبواب الشر، وسوءُ استخدام الهاتفِ المحمول يكمّله، أما غيابُ الرقابة الأبوية فقد أطلقَ العنانَ لخيالٍ مريضٍ يشاهِد الجريمةَ في الشاشة ثم يُقلّدها على الأرض.
وحين غابت القدوة الحسنة وضعُف الوازع الديني، نشأ جيلٌ يعرف عن العنف أكثر مما يعرف عن الرحمة، ويحفظ طرق القتل أكثر مما يحفظ دعاء الخروج من المنزل.
ثم تأتي الكارثة الأخرى حين تُفسّر بعض الأسر قوانين الطفل على نحوٍ خاطئ، فتعتبرها مظلّة للحماية حتى لو ارتكب ابنُها جريمةً تهتزّ لها السماء.
يُحاسَب في مؤسسةٍ للأحداث بضعَ سنوات، يخرج بعدها وقد اكتمل داخله مشروعُ مجرم، لا رادع ولا تأنيب.
أيُّ عدلٍ هذا؟
حين يخطط الطفلُ بدقة، ويشتري أدوات الجريمة بعقلٍ راشد، ويُنفّذ دون رحمة، أليس من المنطقي أن يُحاسَب كمجرمٍ راشدٍ مسئولٍ عن فعله؟
القانون يجب أن يكون ميزانَ عدلٍ لا غطاءً للجرم.
لذا أناشد المشرّع المصري أن يُعيد النظر في نصوص العقوبات الخاصة بالأحداث، وأن يُفرّق بين الطفل البريء الذي يجهل عواقب فعله، والطفل المجرم الذي خطّط ونفّذ وأخفى أدلّته بوعيٍ تامّ.
كما أطالب بمحاسبة الأهل إن ثبت علمهم بالجريمة أو تقصيرهم أو تحريضهم، فالتربية مسؤوليةٌ لا تُختزل في الإنفاق فقط، بل في الرعاية والقدوة والاحتواء.
وهنا، نحتاج إلى وقفةٍ صادقة مع أنفسنا وضمائرنا.
لا بد أن يتحرك الجميع — البيت، والمدرسة، والجامع، والكنيسة، والإعلام، والثقافة — كلٌّ في موقعه، ليعيدوا معًا بناء القيم من جديد، ويغلقوا منابع الانحلال الأخلاقي، ويقفوا في وجه مواقعٍ تزرع في عقول الصغار سمومَ العنف والرذيلة.
فما لم نحجب عنهم تلك السموم، وما لم نمنحهم القدوة الحسنة، سنحصد جيلًا لا يعرف الحياء ولا الرحمة، جيلًا يرى في الجريمة بطولةً وفي القسوة رجولةً.
لمَ لا، وقدوته في التلفاز بلطجيٌّ أو تاجرُ مخدراتٍ أو راقصة؟
علينا جميعًا أن ندقَّ جرس الإنذار الآن، فنحن أمام قنبلةٍ موقوتةٍ على وشك الانفجار، وما لم ننزع فتيلها بالتربية والقدوة، فستحرقنا شرارتها جميعًا.
وفي ختام هذا الألم، لا نملك إلا أن نرفع أكفَّ الدعاء لروح الطفل البريء محمد، قتيل الإسماعيلية، سائلين الله أن يربط على قلوب والديه، وأن يُصبّرهم على فقد وحيدهم، وأن يجعل مصابهم هذا كفّارةً ورفعةً في الدرجات.
رحم الله محمدًا، وجعل دمه ناقوسَ تنبيهٍ يوقظ ضمائرنا، فلعلّه يكون آخر ما يُراق على أيدي الطفولة الضالّة، وآخر ما يُكتب في سجلّ الغفلة قبل أن نصحو جميعًا.
ياسر محمود سلمي
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
د. راقية جلال محمد الدويك
د. سمر ابراهيم ابراهيم السيد
دينا سعيد عاصم
رهام يوسف معلا
ياره السيد محمود محمد الطنطاوي
فاطمة محمد البسريني
محمد محمد جاد محسن
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
د. عبد الوهاب المتولي بدر
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 




































