هل يحتاج الأب إلى عيد؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هل تأملت وجه أمك مؤخرًا؟
هل لاحظت تلك التغيرات التي لم تكن هناك من قبل؟
حيث أصبحت كثيرة الشكوى من ألم العظام، أو القولون العصبي، والعديد من الآلام التي تشعر بها، والتي — وربما معظمها — قد تكون نفسية وليست عضوية.
هل رأيت ملامح الإرهاق حول عينيها، وهي تُحضّر لك طعامك في عدم وجودك، أو تنتظرك حتى تطمئن عليك ليلًا دون أن تشعر؟
هل دقّقت في لون شعر أبيك الذي صار أكثر بياضًا، أو في خطواته التي ما عادت بنفس الثبات؟
هكذا، يا صديقي، يمرّ الزمن، وهكذا يُهديك والداك عمريهما دون أن تطلب...
شدة الأب ليست قسوة، بل خوفٌ لا يُجيد التعبير عنه.
الأب لا يقول "أحبك" كثيرًا، لا يُجيد احتضانك كل حين، لكنه يعمل بصمت ليؤمن لك المستقبل، من خلال استهلاك ماضيه وحاضره ومستقبله، يُرهق نفسه ليراك مرتاحًا، يُخفي حزنه خلف أبواب مغلقة، ويُظهر لك وجه القوة والتحمل دائمًا.
حين يغضب، لا يعني أنه لا يحبك، بل يعني أنه خائف... خائف عليك من الفشل، من التكرار، من الحياة التي ذاق مرارتها قبلك آلاف المرات، حتى أصبح ما هو عليه.
هو لا يريدك أن تعيش ما عاشه من خيبات وخذلان، ولكنه يريدك أن تبدأ من حيث انتهى، لتستمر وتتقدم للأمام.
انحناءة ظهره ليست تعبًا عابرًا، بل سنوات من السعي لأجلك.
كل تجعيدة في جبينه قصة كفاح، وكل شعرة بيضاء في رأسه دعاءٌ صامت بأن تكون أفضل منه.
أما الأم... فكل ولادة كانت تنقصها شيئًا لتُكملك.
كل مرة أنجبت فيها، تركت جزءًا من صحتها خلفها.
كل ليلة سهرت بجوارك مريضًا، أو خائفًا، أو حزينًا، كانت تنتزع من عمرها وتمنحه لك.
جسدها تغيّر، لم تعد تحتفظ بنفس القوة، ولا نفس الحيوية، لكنها أبدًا لم تشكُ...
لأنك أنت مصدر قوتها، وأنت الحيوية، بل وأنت الحياة كلها، نعم أنت رهانها الوحيد مع الحياة الذي لا يجب أن تخسره أبدًا، ومهما حدث.
الأم لا تفرّق بين أبنائها، لكنها تحب كلًّا منهم كما يحتاج، في توقيته الذي يحتاج فيه هذا الحب.
تُربّت على قلب الصغير في ودّ حتى يكبر، وتُطبطب على المريض في خوف ومحبة حتى يشفى، وتنتظر الغائب في شوق حتى يعود.
هي العدالة التي تلبس ثوب الرحمة، فلا تظلم أحدًا.
ولأنها الأساس، جاء في الحديث الشريف حين سُئل النبي ﷺ:
"يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟" قال: "أمك." قال: "ثم من؟" قال: "أمك." قال: "ثم من؟" قال: "أمك." قال: "ثم من؟" قال: "ثم أبوك."
فلا تغفل عن قلبٍ كرّمه الله ثلاث مرّات، قبل أن يذكر سواه.
انتبه يا صديقي، يجب ألا تعامل أباك وأمك بندّية، لا ترفع صوتك، ولا ترد بحدة.
هما ليسا صديقين، ولا زميلين، ولا "قد عفا عليهما الزمن".
هما جذورك التي إن انقطعت، جفّ كل شيء فيك.
وتذكّر أن الزمن لا يُمهل، وأن الحياة قد تفاجئك بالفقد.
وقد قيل في الأثر:
"يا بن آدم، مات من كنا نكرمك من أجلهما، فاعمل لنفسك صالحًا نكرمك من أجله."
فلا تنتظر رحيلهما لتشعر بما كنت تملك.
الدين، يا صديقي، لم يطلب منك أن تقدّسهما... بل أن تبرّهما.
قال تعالى:
"وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا..."
حسنًا، يا صديقي، ربما تكون هذه الكلمات بالنسبة لك مملةً جدًا، أو مكررة، أو غير مقنعة.
ربما لا تصدقها الآن حيث تسمعها، ولكني أراهنك أنك ستذكرها ذات يوم، عندما تعيش نفس المشاعر، ليس كونك ابنًا، ولكن كأب...
غالبًا لن أكون موجودًا بجوارك لتخبرني أني قد كسبت الرهان،
وقتها فقط، سوف تدمع عيناك، لتردد في صمت مقدّس:
"لقد كنتَ محقًا يا أبي..."
أخيرًا، يا صديقي...
قد تعوّضك الحياة عن وظيفة، أو عن حب، أو عن حلمٍ ضائع...
لكنها لن تعوّضك عن أبٍ انحنى ظهره لأجلك، ولا عن أمٍ نحل جسدها، وفقدت صحتها وعمرها، وهي تحاول جاهدة أن تقومك.
فلا تُضيّع برّهم ما داموا بين يديك...
فالعمر لا ينتظر أحدًا.
ـــــــــــ ـــــــــــ
آه، قبل أن أنسى...
هل يحتاج الأب أو الأم إلى عيد؟