كلَّ يومٍ كانت الحافلةُ تتوقَّفُ عند إشارةِ المرور مدةً لا تقلُّ عن خمسِ دقائق ولا تتجاوزُ عشرَ دقائق،
ومن نافذتها، وبالجهةِ اليسرى، كان هناك كوفي شوب في الدورِ الثاني مواجهٌ للحافلة،
يُحيطُ به الزجاجُ من كلِّ جانب،
ممَّا يُتيحُ لمن في الخارجِ رؤيةَ روَّاده في الداخلِ بكلِّ وضوحٍ.
لفت نظرَها شابٌّ يجلسُ في زاويةِ المكان،
بهدوءٍ، وحيدًا على مائدتِه التي تُواجهُ الحافلة،
وأمامَه كوبٌ من القهوةِ يرتشفُ منه رشفاتٍ متتاليةً،
ويتركُه ليخطَّ بعضَ الكلماتِ على الورقِ المتناثرِ على المائدة.
كان يرتدي نظارةً سوداءَ، وأمامَه كتابٌ ذو غلافٍ داكنٍ.
للوهلةِ الأولى ظنَّت أنه ينظرُ إليها، أو أنه انتبهَ إلى أنها تُراقبُه،
شعرت أنه يُحدِّقُ بها ويراهَا بوضوحٍ كما تراهُ هي من خلفِ الزجاج،
مما جعلها تشعرُ بالخجلِ الشديد، وجعل وجنتيها تحمرَّان خجلًا،
وكم شعرت بالراحةِ حين تحرَّكت الحافلة.
ظلَّت ملامحُ ذلك الشابِّ لا تُفارِقُ خيالَها أو تفكيرَها طوالَ اليوم،
وعندما خلدت إلى النومِ كانت تعدُّ الساعاتِ والدقائقَ، بل والثوانيَ،
لرحلةِ الغد، فربما تراه مرةً أخرى.
ولكنها حدَّثت نفسَها قائلةً إنه ربما يكونُ وجودُه اليوم محضَ صدفةٍ،
وأنه لن يتواجدَ بالغد.
تناولت كتابَها المفضَّلَ للقراءةِ، فربما تُساعدُها القراءةُ على الاسترخاءِ
والهروبِ من ملامحِ ذلك الشابِّ التي استحوذت على كاملِ وعيِها وعقلِها الباطن.
وكم كانت تحملُ الكثيرَ من الفضول لمعرفةِ إن كان انتبهَ لها حقًّا أم أنها تخيَّلت ذلك.
وفي نفسِ التوقيتِ، وعند نفسِ الإشارة،
توقَّفت الحافلة.
حاولت أن تُقاومَ النظرَ باتجاهِه أو تُحاولَ إشغالَ نفسِها بأيِّ شيءٍ آخر،
ولكن هيهات! فهناك قوى خفيَّةٌ هي ما تُحرِّكُها.
نفسُ المائدة، ونفسُ الرجل، بنفسِ التفاصيل:
كوبٌ من القهوة، وكتابٌ، وبعضُ الورقِ المتناثر،
ونفسُ القلم، ونفسُ النظارة.
ولكن هذه المرَّة كانت متأكدةً أنه يراها،
بل ويبتسمُ لها!
نعم، هو يبتسمُ — هي لا تتخيَّلُ ذلك ولا تختلقُه،
بل إنها تشعرُ أن نظراتِه تُغادرُ زجاجَ نظارتِه لتخترقَ زجاجَ النافذةِ في الحافلة،
وكان هذا كفيلًا بأن يجعلَها ترتبكُ ويحمرَّ وجهُها خجلًا.
تحرَّكت الحافلةُ وهي شبهُ نائمةٍ أو حالمةٍ،
وكم حمدت الله أن الحافلةَ قد تحرَّكت،
لتُنقذَها مما انتابَها من مشاعرَ متداخلةٍ لا تُدرِكُ توصيفَها.
أصبحت حُلم هذه المرَّةَ أكثرَ ثقةً بأنه قد رآها، بل وابتسمَ لها.
ترى، ماذا يُخبِّئُ لي القدر؟
هذا ما حدَّثت به نفسَها وهي تتخيَّلُ نفسَها جالسةً أمامَه على نفسِ المائدة.
تكرَّر هذا طوالَ الأسابيعِ الثلاثةِ التالية،
نفسُ الحافلةِ تتوقَّفُ عند نفسِ الإشارة،
ونفسُ المائدةِ بنفسِ التفاصيل،
ونفسُ الشخص،
والشيءُ الوحيدُ الذي تغيَّر هو أنها لم تعد تُراقبُ الأشخاصَ من حولِها،
ولم تعد ترسمُ للآخرينَ عالَمَهم.
فقد أصبح هناك شخصٌ واحدٌ هو كلُّ عالمِها،
يسيطرُ على عقلِها وتفكيرِها،
بل أصبح يُسيطرُ على كلِّ مشاعرِها.
أصبحت ترى العالمَ مختلفًا الآن،
بل وأصبحت تهتمُّ بتفاصيلِها كأنثى،
وتهتمُّ بمظهرِها وملامحِها.
أخذت أنفاسَها تتلاحقُ، وقلبُها ينبضُ بقوَّةٍ،
فها هو الموعدُ اليوميُّ يتكرَّر،
وها هي الحافلةُ ستتوقَّفُ الآن.
التفتت إلى يسارِها، فوجدتْه وكأنه ينتظرُها،
ولكن هذه المرَّة يتحدَّثُ إليها بكلماتٍ لا تسمعُها،
غير أنها — من خلالِ قراءةِ شفاهِه — لا تُخطئُ حروفَ تلك الكلمة.
ترى، هل هو حقًّا ينطقُ بهذه الكلمةِ ويُخبرُها بها؟
وهذه الوردةُ التي يحملُها بين أصابعِه ويُشيرُ إليها،
هل هي المقصودةُ بذلك؟
كم تمنَّت لو يتوقَّفُ الزمانُ ويغيبُ المكانُ عند تلك اللحظة،
ولكن هيهات! ها هي الإشارةُ تضيءُ باللونِ الأخضر،
لتتحرَّك الحافلةُ وتتركَ خلفَها الكثيرَ والكثيرَ من علاماتِ الاستفهامِ وأسئلةٍ بلا إجابات.
ترى، ماذا يُخبِّئُ لي القدرُ فيما هو آتٍ؟
تلك كانت كلماتُها الأخيرةُ وهي مغمضةُ العينين،
وذلك الشابُّ يتضاءلُ أكثرَ وأكثرَ حتى اختفى تمامًا.
مضى اليومُ ثقيلًا مملًّا،
تحدَّثت إلى صديقتِها فرح عبر الهاتف،
حاولت أن تبدو طبيعيةً ككلِّ يوم،
لكنَّ توتُّرَها وما يحدثُ معها كان يسيطرُ عليها كليًّا،
ممَّا أفقدها تركيزَها أثناءَ الحديث.
استودعت صديقتَها فرح، وتمنَّت لها ليلةً طيبةً على وعدٍ باللقاءِ غدًا.
وقبل أن تذهبَ إلى فراشِها، لم تنسَ ما تفعله كلَّ يومٍ طيلةَ سنواتٍ،
ذهبت إلى سورِ بلكونتِها،
وضعتِ الحبوبَ والماءَ بأطباقٍ صغيرةٍ للطيورِ العابرةِ والعصافيرِ التي تبحثُ عن الغذاء.
وقبل أن تعودَ إلى فراشِها،
استدارت بعينيها لتُواجهَ القمر،
كم يبدو غامضًا، ويُخفي أكثرَ ممَّا يُظهر،
خُيِّلَ لها أن القمرَ يُنصتُ إليها،
فقد أرسل أضواءَه الفضيةَ على شعرِها المسترسلِ على كتفيها،
ليكتملَ ظلُّها على الجدار.
لوَّحت له بكلتا يديها، وبعفويةٍ ولا إراديًّا،
وجدت نفسَها تُردِّدُ نفسَ الكلمةِ التي قرأتها على شفاهِه...
ــــــــــــــــــــــ
يتبع
يوستينا الفي قلادة برسوم
محمد سعد الدين محمد شاهين
د. ايمان احمد ابو المجد الدواخلي
ايمان صلاح محمد عبد الواحد
غازي جابر البشير زايد
آمال محمد صالح احمد
هبة محمد محمد عبد الرحمن
سارة ابراهيم عبد القادر القصبي
نجلاء محمود عبد الرحمن عوض البحيري
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
د. عبد الوهاب المتولي بدر
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
ياسر محمود سلمي
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 



































