بنظرة ثاقبة من رهف إلى وجهي حلم وفرح تيقنت أنها قد استرعت كامل انتباههما وأنهما أصبحتا تنتظران بشغف ما ستقوله، هنا مالت رهﻒ إلى الوراء قليلًا قبل أن تتنهد تنهيدة
عميقة وهي تقول: ربما قبل أن أخبركما بواقعة تاريخية شهيرة عن التخاطب عن بعد، سأورد لكما بعض ما قد يكون قد مرعلى الكثيرين منا، مثلًا.. كم مرة فكرت إحداكما بشخص ما وفي نفس الوقت يحضر هذا الشخص أو يتصل أو حتى يرسل رسالة؟
فرح: بالفعل تكرر هذا معي كثيرًا، ولكن في العادة لا ألقي له بالًا، وأقول ربما كانت مصادفة أو أقول لا أدري ولكنه يحدث بالفعل.
رهﻒ مواصلة حديثها: أحيانًا يتحدث بعض الأشخاص فتخرج نفس الجملة منهم بنفس الوقت، أو ينطق أحدهم بجملة أو كلمة فيقول الآخر مبتسمًا لقد أخذتها من على طرف لساني.. ألا يحدث هذا؟
حلم: بلى يحدث كثيرًا جدًا.
رهف: هناك بعض المواقف وبعض الأحداث تحدث بالحاضر ونشعر أننا عشنا نفس هذا الموقف بنفس تفاصيله، بل وربما يحدث أحيانًا أننا نتوقع ما سيحدث وكأننا نعيد مشهد تمثيلي قديم.
هنا أومأت فرح برأسها مؤكدة على كلام رهف وتبعتها حلم بصمت.
حلم: ولكن يظل هذا من الأمور العادية التي تحدث لنا دون أن تستوقفنا، بينما ما حدث ويحدث معي أمر مختلف قليلًا، أنا لا أتخيل أو أحلم أو حتى أرى كوابيسًا، أنا أرى أشخاصًا حقيقين لم ألتقيهم من قبل، ومن ثّم أراهم وأعلم أنهم أشخاص حقيقيون،
كحبات من اللؤلؤ تساقطت بعض دموعها على خديها وهي تقول وكأنها تحدث نفسها: هناك شخص ملك كل مشاعري دون لقاء، شخص أصبح كل عالمي، والآن قد انهار هذا العالم ولم يعد له وجود، ليس هذا وحسب.. أشعر وكأنه يسكنني وأنني مازلت أنتمي لهذا العالم، أسمع أصواتًا وأنا بين النوم واليقظة، أعيش أحداثًا ولا أدري هل عشتها قبل وقوعها أم بعد حدوثها؟ الجميع من حولي لا يدركون حجم ما أعانيه وأعايشه، شاركتها فرح تلك الدموع قبل أن تتدخل رهف لتجاوز هذا الموقف وتكمل ما كانت قد بدأته.
رهﻒ: ما سأخبركما به الآن حادثة تاريخية موثقة وربما تجيب على بعض أسئلتكِ أو توضح لكِ ماذا أقصد.
نحن نعلم جميعًا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب..
حلم وفرح: نعم.. رضي الله عنه وأرضاه.
رهﻒ: تقول الرواية أنه وأثناء خلافته وفي خطبة الجمعة بمدينة رسول الله ومن على منبره إذا به فجأة يقول وينادي بأعلى صوته
«يا سارية الجبل، من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم» وبعد انتهاء الصلاة تجمع الناس حول عمر يسألونه عن هذا الكلام فقال.. «والله ما ألقيت له بالًا، شيءٌ أتى على لساني» وبسؤال أمير المؤمنين على بن أبي طالب عن الذي يقوله عمر قال «ويحكم.. دعوا عمرًا فﺈنه ما دخل في أمر إلا خرج منه» ثم تبينت القصة فيما بعد.
حلم ورهﻒ في نفس واحد: كيف هذا؟ أكملي.. ماذا كان يقصد؟ وكيف تبين الأمر؟
رهﻒ: حسنًا.. سأكمل القصة لكما.
لقد كان سارية بن زنيم الدؤلي من بلاد فارس، وقد كان يقاتل الفرس بعام 645 ميلادية سنة 23هجرية على أبواب نهاوند فى بلاد فارس، ولقد تبينت القصة عندما قدم سارية إلى المدينة والتقى الفاروق في حضور الصحابة فقال: يا أمير المؤمنين.. لقد تكاثر العدو علينا وأصبحنا فى خطرعظيم، فسمعت صوتًا ينادي «يا سارية .. الجبل ..الجبل، من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم» وعندئذ التجأت بأصحابي إلى سفح الجبل واتخذت ذروته درعًا لنا يحمي مؤخرة الجيش، وواجهنا الفرس من ناحية واحدة فما كانت إلا ساعة حتى فتح الله علينا وانتصرنا.
حلم بذهول: أيعقل هذا؟ كيف يصل صوته من المدينة إلى فارس؟
فرح: بل وكيف رأى ما رأى وهو بمكانه وحذر سارية بأن يلزم الجبل؟
رهﻒ: تظل الروح دومًا سر من أسرار الخالق «ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربﻲ وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا» صدق الله العظيم.
حلم: هل تريدين القول أن روحي تنتقل من مكان إلى مكان ومن خلالها أرى أشخاصًا أو أسمع أصواتهم؟
رهﻒ: لا أستطيع الجزم بذلك حتى الآن، ولكن علينا أن نتأكد أولًا من بعض الأحداث ونحاول ربطها ببعضها البعض.
حلم: ولذلك طلبت حضورك.
فرح: ماذا تقصدان؟ وكيف نفعل ذلك؟
حلم : سنُكون فريقًا وسيعمل كل منا على أمر ما، وعندما نجمع ما نريد من معلومات سنحاول تكوين صورة واضحة للأمر، وربما نجد خيطًا يقودنا إلى حقيقة الوضع.
فرح بحماﺱ بالﻎ: نعم.. موافقة، يروقني ذلك جدًا ومستعدة لفعل أي شيء.
حلم: ستذهبين أنتِ يا فرح إلى ذلك الكوفي شوب وستحاولين جمع أكبر قدر من المعلومات عن الكاتب أحمد مجدي.. حياته، عمله، مكان إقامته، أعماله الأدبية، علاقاته.. باختصار كل ما يمكنكِ جمعه من معلومات وعليكِ أن تتأكدي من دقة معلوماتك.
رهف: وأنا ما هو دوري بتلك المغامرة؟ هل سأقف مكتوفة اليدين؟
حلم: أنتِ ستجمعين كل كتب أحمد مجدي ومؤلفاته من المكتبات، وستحاولين الحصول على كل الصحف التي تحدثت عنه في حياته أو بعد موته، وسيكون من الجيد لو التقيتِ بأحد المقربين منه.
رهﻒ: بالتأكيد سأنجح بذلك، لا تقلقي.. أحتاج فقط إلى 24 ساعة، وسيكون بين يديكِ ملف كامل عن أحمد مجدي.
فرح: وماذا عنكِ؟ هل ستنتظرينا حتى ننهي مهمتنا؟
حلم: لذلك طلبت من رهف إحضار )اللاب توب(، فهناك الكثير والكثير من العمل ينتظرني، وربما يكون ما أفكر به هو مفتاح كل ما يحدث.
رهﻒ: ماذا تقصدين بقولك هذا؟
حلم: لا تشغلا ذهنكما بما أفكر به، هل أنتما جاهزتان للبدء بالمهمة؟
فرح ورهﻒ: نعم سنبدأ من الآن.
حلم بنظرة تحمل الكثير من الحب والود: شكرًا.. شكرًا لكما.
ما إن غادرت فرح ورهف غرفة حلم، حتى تنهدت تنهيدة عميقة ووضعت )اللاب توب( جانبها وذهبت مباشرة إلى مؤشر البحث وكتبت.. الكاتب الروائي أحمد مجدي.
استقلت فرح سيارة رهف وما إن أوصلتها إلى الكافيه حتى انطلقت برحلة البحث داخل كبرى المكتبات لتبدأ مهمتها، صعدت فرح إلى الكافيه مباشرة وجلست قريبًا من ذلك الركن المخصص للكاتب بالكافيه، حيث مازالت أشياؤه كما هي، قلمه وبعض الورق، ونظارته السوداء المهشمة.. وبعض الكتب، مرت دقائق قبل أن يأتي شاب بمقتبل العمر ببداية الثلاثينات.. يبدو من ملامحه أنه ريفي بملامح سمراء ونحيف إلى حد ما، اقترب من مائدة الكاتب من ثَم قام بترتيب الأشياء عليها وكان يحمل بيده وردة وضعها بكوب على المائدة، هَمَ بمغادرة المكان فجأة كما ظهر فجأة، لحظات من التردد لم تستمركثيرًا قبل أن تتوجه إليه فرح بالحديث قائلة: من فضلك؟
الشاب وهو يلتفت من حوله ليتأكد أنها تحدثه هو وأشار إلى صدره قائلًا: هل تحدثينني أنا؟
فرح: نعم.. هل لي بلحظاتٍ من وقتك؟
تلعثم الشاب قليلًا قبل أن يجيب: نعم.. تفضلي.
فرح: هل يمكنك الجلوس من فضلك، لن آخذ من وقتك الكثير.. فقط دقائق قليلة.
الشاب وهو يجلس بخجلٍ مشوبٍ ببعض القلق: نعم نعم، لا بأس بذلك.
فرح: أنا من قراء الأستاذ أحمد مجدي ومعجبيه، ولقد لاحظتُ ما فعلته الآن، فهل أنتّ من أقاربه؟
الشاب: لا.. ليس الأمر هكذا، أنا أيضًا من قراء الأستاذ ومعجبيه وأيضًا ببداية عهدي بالكتابة، كان الأستاذ يوجهني ويدعمني وكنت أقرأ عليه ما أكتب لينصحني، فهو ممن يساندون ويدعمون المواهب الشابة.
فرح: هل له أقارب؟ أهل..؟ زوجة..؟ أولاد..؟ أصدقاء..؟ الشاب: كل ما أعلمه أن الأستاذ كان يكرسكل وقته للكتابة،
وكان له عامود يومي بصحيفة كبيرة، ولم يكن يتطرقكثيرًا لحياته
الشخصية.
فرح: بالتأكيد كاتبكبير مثله محبوب من الجميع، وبالتأكيد له معجبات ومعجبين، وربما يحضر سهرات مع صفوة المجتمع وهكذا.
الشاب: الأستاذ أحمد كان له عالمه الخاص، ولم يكن من محبي السهرات، وماكان يكتبه بالصحيفة خلق له بعض الحاقدين ممن لا يعجبهم فكر وتوجهات الأستاذ أحمد.
فرح: هل تقصد أنه كان له أعداء يحاربونه؟
الشاب: كان الأستاذ أحمد ينحاز للفقراء والمهمشين، وكان يعارض الكثير مما يحدث، وهذا جعله من المغضوب عليهم.
فرح: هل كنت تُحضر له ما تكتبه هنا ليقرأه أم ترسله له بالبريد ويخبرك بملاحظاته فيما بعد؟
الشاب: كنت أحضرها هنا لأقرأها له بنفسي، فهو كما تعلمين لا يستطيع القراءة.. ثم استطرد قائلًا: ولكن كيف تكونين من قرائه ومعجبيه ولا تعلمين أن الأستاذ كان كفيفًا؟
فرح وقد باغتتها المعلومة: الحقيقة أني بدأت بالاهتمام بعد الحادث وفعلًا قد فاجأتني بذلك، ولكن كيف يكون كفيفًا وهو كان يحضر هنا للكتابة؟
الشاب: لم يكن هو من يكتب.
فرح: إذًا كيف أو من كان يكتب إن لم يكن هو من يفعل؟ الشاب: كان له مساعد يتولى الكتابة، ولكن منذ شهر ونصف
الشهر كان يرافقه أخاه القادم من فرنسا ولم يكن يفارقه ولو
للحظات.
فرح: إذًا له أخ شقيق؟
الشاب: نعم.. وهذا كل ما أعرفه، شكرته فرح وتمنت له مستقبلًا جيدًا في الكتابة، غادر بعدها الشاب من حيث أتى.
نهضت فرح لتغادر المكان قبل أن تعود للخلﻒ بغتةً وتستوقﻒ النادل لتسأله فجأة: هل تخبرني من فضلك أين كان يجلس الاستاذ أحمد على المائدة؟
النادل بدهشة بالغة من السﺆال أشار لها حيث كان يجلس وتوجه بنفسه إلى الكرسي قائلًا: هنا.. وهنا كان يجلس من يتولى الكتابة نيابة عن الأستاذ.
هنا لمعت عين فرح وأسرعت بمغادرة المكان بسرعة وهي تقول لنفسها سوف أفاجئك يا حلم بما عرفته للتو.. حقًا سأفاجئك.
يتبع





































