هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • الألباني ولينه ..والقذافي
  • قدرة التعود
  • يا حنضلة
  • بين الحبر والهوى
  • أهل الفاشر يهربون من الموت إلى الموت 
  • إحترام الوقت والإلتزام بالمواعيد
  • منطقة مقفولة
  • خذلان الإدارة وضعف إدارة الدولة 
  • الخمسون.. ليست نهاية الطريق 
  • اللواء حسن رشاد - كل رجال المملكة - ديك الحبش - قدرة قادر - مصر التي 
  • الأولى
  • الورقةُ اللّعينة 
  • سليم
  • باب الخلاص
  • قل لي بربك
  • حنين إلى الماضي
  • تغريد الكروان: تجمل بالسكوت
  • وقت حظك
  • لابد مما ليس منه بد
  • فإنَّ ما ودِّع عند اللَّه لا يضيع
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة ايمن موسى
  5. حتمًا سنلتقي

"الحب كالومضة

 يأتي بلا موعدٍ مُسبَق

يُشبه البرق في وميضه، يشبه الثورة فى قوتها وتوهُّجها، كماء الجداول في انسيابه ورقَّته وعذوبته".

لسنواتٍ طويلة ظلَّت هذه قناعة فارس، فبرغم رومانسيته المفرطة -كما يصفه أصدقاؤه أو يتهمونه بذلك إن جاز التعبير- كونه الوحيد بينهم الذي لم يخُض أي علاقة عاطفية، كثيرًا ما تحدَّثوا أمامه عن حياتهم العاطفية، عن مشاعرهم وحبهم، عن فتيات أحلامهم، عن أحلامهم وأمنياتهم أملًا منهم أن تتحرك مشاعره ولو قيد أنملة، لكنه -ولدهشتهم الشديدة- كان يضحك حتى تدمع عيناه، منهم مَن ظنَّ أنَّ ظروفه المادية القاسية هي سبب عزوفه عن خوض أي علاقة عاطفية، ومنهم مَن ظنَّ أنَّ خجله وقلة خبرته هما السبب في ذلك.

فقط وحده فارس مَن كان يعلم أنه لم يأتِ الأوان بعد، وأنه لم يلتقِ حتى الآن بمن يخفق لها قلبه ويعلن استسلامه لها عن طيب خاطر، مَن تستحوذ على مشاعره وقلبه وروحه وتجعله يرفع الراية البيضاء مستسلمًا في هزيمة بطعم الانتصار. 

عندما كان يغمض عينيه كان يراها، نعم، هي موجودة في مكانٍ وبقعةٍ ما من هذا العالم، كان يعلم علم اليقين ويثق في وجودها، يعلم أنها تنتظره كما ينتظرها، وأنه يومًا ما سيجمع القدَر بينهما، لا شك لديه أنهما سيلتقيان، متى وكيف هذا هو ما يجهله، وعندما يجمع القدر خطاهما معًا سيكتملان ولن يفترقا أبدًا.

هو الآن يلتقي بها في خيالاته يحدِّثها وتحدِّثه، صورتها وملامحها تحتلان خياله كما تحتل قلبه ووتينه برقتها وعذوبتها، مشاعرها تشبه مشاعره، هي فتاة حالمة تشبه فارس الحالم بوطنٍ يحتويه وهواء نقي بطعم الحرية، وطن يساوي بين أبنائه، فلا يفرِّق بينهم ولا يميِّز بينهم، وطن لا تتحول فيه الحقوق إلى أحلام وأمنيات مستحيلة التحقُّق. 

هكذا ظلَّ فارس محافظًا على قناعاته وما يؤمن به، لكن -وكما يقولون- فدوام الحال من المحال. 

ثلاث سنوات مرَّت وفارس يأتي دومًا الأول على دفعته بكلية الهندسة متفوقًا على جميع أقرانه، لم يسمح لسوء الأحوال المادية لأسرته أن تكون حائلًا أو حجر عثرة في طريق تحقيق أحلامه وما يصبو إليه، فهو عليه أن يجد ويجتهد حتى يحقق حُلم والده العامل بمصنع لتغليف الأغذية، ووالدته التي أنهكتها ميكنة تفصيل الملابس، وكادت تُفقِدها بصرها وهي تحيك الملابس للجيران والمعارف، لتساهم بنفقات البيت، ولتعين زوجها على أعباء الحياة ونفقات ثلاثة أطفال جميعهم أصغر من فارس وبمراحل التعليم المختلفة. 

كان هذا يُلقي على عاتقه بمسؤولية مضاعفة لا يتحمَّلها وحده مثل مسؤولية تعليمه، كذا المساهمة بقدر ما يتوفر في نفقات البيت، فكان يعمل بإجازة الصيف، ليواصل العمل ليلًا ونهارًا كنادل بأحد المطاعم بلا توقف، ليكون معينًا لأهله وسندًا لهم على ظروف الحياة وقسوتها. 

ثلاث سنوات لم يحاول فارس التقرب من أي فتاة بالجامعة، وبرغم محاولات بعضهن للتقرب منه فإنَّ جميع محاولاتهن باءت بالفشل، حتى حدث ما غيَّر حياته وقلب الأمور رأسًا على عقب. 

كالومضة لاحت له فجأةً وعلى غير استعداد وبلا أي مقدمات ظهرت ريم، تلك الفتاة التي انتقلت الى كُليته حديثًا، فتاة ما إن ظهرت حتى أصبحت حديث الجامعة كلها ومحط أنظار الجميع، فمنذ الوهلة الأولى لحضورها للجامعة بتلك السيارة الفارهة بالسائق الخاص وكل الأنظار أصبحت مسلَّطةً عليها، الجميع يحاولون التقرب منها وخطب ودها ومحاولة لفت انتباهها ولو للحظات، ريم فتاة تشبه القمر بالسماء، حيثُ تحيط به النجوم من كل اتجاه كذلك هي أينما ذهبت لاحقتها نظرات الإعجاب. 

سمع فارس بعضهم يتحدث عنها وعن والدها الثري صاحب شركة المقاولات القادم من إحدى دول الخليج للاستقرار بمصر بعد وفاة زوجته ومعه ابنته الوحيدة.

وهكذا تحوَّلت هذه الملاك الرقيق ذات الملامح الملائكية مطمعًا ومغنمًا للجميع، وكلٌّ منهم وجد فيها ضالته سواء كان حبًّا أو طمعًا، كانت ريم حقًّا فتاة أحلام الجميع وحق مشروع لهم، من أجلها تُخاض الحروب. 

رغم محاولة الكثيرين التقرب من ريم وخطب ودها، فإنها لم تكن من ذلك النوع من الفتيات؛ فهي نوعًا ما ورغم حيويتها المفرطة كانت هادئة الطباع جميلة الملامح راقية المشاعر. 

كان فارس يراقبها من على بُعد، يشعر بالراحة والهدوء عندما يراها، بالنسبة له ريم لم تكن سوى انعكاس لحُلمه الغائب الحاضر، عندما رآها أول مرة وسمع صوتها أدرك أنها هي مَن يبحث عنها، هي مَن تسكن خياله وتحتل وجدانه، كلما نظر إليها أدرك أنها قدَره. 

 لكن سرعان ما يلبث أن يفيق من أحلامه وخيالاته، ليخبر نفسه أنَّ طرقهما تتقاطع ولا تلتقي كما قضبان السكك الحديدية يسيران بالتوازي دون لقاء، كل منهما من وسط يختلف عن الآخر، وكما يقولون الإنسان صنيعة بيئته وأسيرها، هو يكافح من أجل موضع قدم له، وهي -كما يقولون- وكأنها وُلِدت وفي فمها ملعقة من ذهب، نعم، هما مختلفان، ومن الصعب أن يلتقيا؛ فأين هو منها؟ لكن لا بأس، يكفيه فقط أن يراها ولو من على بُعد أو يسمع صوتها العذب أثناء حديثها مع زميلاتها، وربما أسعده القدر برؤية ابتسامتها العذبة، التي كانت كفيلةً بأن تعطيه طاقةً من نور وتحمله إلى عالم من الخيال لا ينتهي. 

ظلَّ فارس هكذا لشهور يراقبها من بعيد، لا يجرؤ على الاقتراب ولا يقوى على الابتعاد حتى كان ذلك اليوم الذي اقترن اسمه باسمها في مشروع التخرج، 

لم يصدِّق نفسه أو أذنيه عندما وجدها هي دون غيرها شريكته بمشروع التخرج، تُرى هل هذه مصادفة لم يكن يحلم بحدوثها حتى فى أجمل أحلامه أم أنه قدر؟ تُرى هل استجاب الله لدعواته؟ هل ستتحقق أمنيته ويقترب منها إلى هذا الحد الذي يجعله يسمع صوتها ويرى ابتسامتها العذبة التي تأسره دون قيد أو شرط؟ هل سيحادثها وتحادثه، تتلاقى نظراتهما ويتشاركان المستقبل معًا، لمَ لا؟ هو على الله هيَّن.

ذلك اليوم عندما علِم زملاؤه بأنَّ ريم شريكته هو دون غيره بمشروع التخرج، رأى نظرات الجميع ترمقه بشدة، منهم مَن يحسده على ذلك، ومنهم مَن ينظر له نظرةً دونيةً حاقدة، بعضهم يرون أنفسهم الأحق منه والأجدر بذلك. 

 لم يشفع له تفوقه وجده واجتهاده ونبوغه العلمي وتفوقه، لكن ما شأنه بهم؟ لمَ قد يشغل باله بهم؟ بل متى التفت إلى سخافات البشر وضجيجهم؟ هكذا حدَّثته نفسه بينما دقات قلبه لا تتوقف عن الخفقان. 

يومًا ما كان فارس يقف بجوار حوض من النباتات عندما أفاق من شروده على همهمات صوت منخفض، نظر باتجاه الصوت ليراها أمامه تقف في خجل وهي تخبره على استحياء وقد احمرَّت وجنتيها خجلًا أنها شريكته في مشروع التخرج، ظلَّ على صمته دون أن يجيبها أو يتحدث إليها، فقط وقف مشدوهًا وكأنه يحلم. 

حاول أن يتحدث فلم يعرف كيف يبدأ أو ماذا يقول فقط، ظلَّ ينظر إليها وكأنه غير مصدِّق وجودها. 

ريم في خجل وقد أرادت أن تقطع هذا الصمت المريب بالنسبة لها، لتقول في ابتسامة خجولة:

- هل قاطعتك؟ يمكنني العودة في وقت آخر إن كان هناك ما يشغلك.

قالت هذا وهي تهمُّ بالمغادرة، بحركة لا عفوية مدَّ فارس يده ليستوقفها، ما أشعرها بالخجل، تلعثم فارس في خجل وهو يعتذر قائلًا في ترحاب وود:

- أبدًا أبدًا، أنا لا أفعل شيئًا.

ريم: أعتقد أنك علمت من الدكتور أنني زميلتك وشريكتك بمشروع التخرج.

لتستطرد قائلة: اسمي ريم، ريم محمود يوسف.

ثم مدَّت يدها تصافحه. 

فارس وقد مدَّ يده المرتعشة ليصافحها:

- أنا.. أنا فارس محمد عبدالقادر.

ثوانٍ مرَّت لا يدري كيف مرَّت، ويده ما زالت بيدها حتى شعرت ريم بالخجل وهي تسحب يدها على استحياء وتبتسم تلك الابتسامة التي تأسره برقتها ونعومتها قائلة:

- أعرف جيدًا مَن أنت.

لتقول في حيوية ونشاط: يجب ألَّا نضيع وقتنا.

أردفت قائلةً في حب وفخر: أبي يضع عليَّ آمالًا عريضةً للتخرج ومساعدته بالشركة.

فارس وهو يبتسم: إذًا فقد ضمنتِ وظيفتكِ دون جهد أو عناء.

ليعقب قائلًا: لكني أعِدكِ أننا سنحاول أن نكون الأفضل، أعِدكِ بذلك. 

مرَّت الشهور سريعًا وكأنها ثوانٍ بالنسبة لفارس، فعندما تكون ريم بقربه حتى الجاذبية تتخلَّى عن كل قوانينها بحضورها الآسِر ورِقَّتها المتناهية، كم أصبح يحب الحياة ومقبلًا عليها! أصبح يرى الحياة بمنظور جديد، التفاؤل والأمل والطموح هم رفاقه دومًا فلا يفارقونه، تساءل في رجاء موجِّهًا بصره نحو السماء: هل تصبح ريم قدره الجميل؟ هل كان لقاؤهما مصادفةً بحتة؟ أم تُراه يبتسم له القدر؟ أم سيكون للقدر رأي آخر؟ 

انقضى العام الدراسي بسرعة البرق، وككل شيء جميل يمضي سريعًا مرت اللحظات السعيدة بينهما بسرعة، وكأنَّ هناك مَن يطاردها أو أنها تخشى البقاء ولو قليلًا. 

شعر فارس بعدو الأيام والشهور، كلما اقترب حُلمه في التخرج من التحقق روادته هواجس الفراق، أحسَّ بانقباض قلبه وغُصَّة تجتاح روحه، هل اقتربت نهاية الحلم الجميل؟ هل آن موعد الفراق؟ لأول مرة في حياته يشعر أنه يسرق السعادة من الحياة ويأخذها عنوة. 

انتهى العام الدراسي وبدأ موسم الحصاد لمن جدَّ واجتهد، ليحصل على جائزته من الحياة. 

 كان مشروع فارس وريم للتخرج هو الأفضل على دفعتهما، وكالعادة كان هو أول دفعته، كانت سعادة ريم بنجاحه وتفوقه تفوق سعادتها بنجاحها هي حتى أنها وعلى غير العادة، وبتلقائية شديدة سألت على نتيجته قبل أن تسأل على نتيجتها، كم تمنَّت أن تكتمل سعادتها بتحقيق ما تحلم به وتتمناه! كم دَعت ربها كثيرًا أن تتحقق أمنيتها، كم طال سجودها وهي تدعو الله أن يحقِّق خبيئة قلبها وما تسرُّه روحها! 

كان مشروع التخرج مبرِّرًا لاختلاق الأعذار وتواجدهما معًا فترات طويلة، هكذا مرَّت الشهور عليهما وهما معًا لا يكاد يمر يوم دون أن يلتقيا ويكونا معًا، يتشاركان الأحلام والأمنيات معًا، وهكذا بدأت المشاعر تتقد، وألقى كيوبيد بسهامه لتُصيب قلوبهما مباشرةً وتستقر بالوتين. 

مضت السنة النهائية تحمل لهما النجاح والتفوق ثم التخرج، كانت ريم هي أول مَن عرف بتخرُّجهما عن طريق دكتور بالجامعة، وهو صديق شخصي لوالدها علمت قبل إعلان النتيجة بالجامعة. 

عندما اتصلت به لتخبره بنجاحه وتفوقه كانت تتحدث بسعادة غامرة حتى شعر بدموعها تكاد تنساب من عينيها، فارس بجدية وقد ارتسم القلق حتى كسا كل ملامحه وهو يقول بنبرة قلقة:

- وأنتِ لم تخبريني عنكِ ماذا فعلتِ؟ 

ريم مازحة وقد أشرقت ملامحها بابتسامتها الصافية:

- وهل ظننت أنني سأتركك تغادر من دوني؟ بالتأكيد سأرافقك على أولى درجات سلم المجد.

ضحك الاثنان معًا من قلوبهما حتى ليظن الناظر إليهما أنهما يمتلكان هذا العالم بأَسْره، وكأنهما بنجاحهما وحبهما أصبح من حقهما أن يضعا القواعد والقوانين لمستقبلهما. 

فارس وهو يستمع لهمساتها بعُمق: هل يمكنني أن أقدِّم لكِ شيئًا بسيطًا بمناسبة التخرج؟ 

ريم ضاحكة: وهل ظننت أنني سأخبرك بالنتيجة هكذا مجانًا يا باشمهندس؟ اتفق الاثنان على اللقاء مساء اليوم نفسه، للاحتفال بهذه المناسبة الجميلة. 

ظلَّ فارس متردِّدًا حائرًا، تُرى هل يخبرها بمشاعره؟ لكن كيف هذا وماذا عنها هي؟ كيف سيكون رد فعلها؟ كل شيء تفعله يدل على حبها له أم تُراه يتخيَّل ذلك ويختلقه؟ هل تبادله المشاعر نفسها حقًّا؟ قلبه يخبره بذلك، فهل يتبع قلبه وإحساسه أم أنَّ هذا سيجعله يخسرها للأبد؟ 

هل تبادله المشاعر نفسها أم أنه بالنسبة لها ليس سوى زميل وصديق مميز شاركها مشروع التخرج؟ نفض فارس كل مخاوفه وذهب لموعدهما يسابق الثواني في عدوها، لمَ وهو على موعد مع السعادة؟ 

عندما وصل فارس وجدها تنتظره وقد سبقته إلى هناك تنتظر قدومه. 

ريم معاتبة: لماذا تأخَّرت يا باشمهندس؟ أكثر من ربع ساعة وأنا بانتظارك.

فارس مازحًا: لقد تعطَّلت سيارتي بزحام الطريق، وكنت مضطرًّا لركوب الحافلة، وكما ترين فالازدحام شديد.

شعرت ريم بالخجل، لأنها أدركت أنه يمازحها ساخرًا يقصد من مزحته أنه لا يملك سيارة بسائق مثلها. 

أرادت ريم تجاوز هذا سريعًا، لتقول متسائلة:

- هيا أخبرني عن خططك، فهل ستقبل العمل معيدًا أم ستعمل بالقطاع الخاص؟ 

فارس: ما زلت أفكر في ذلك.

ريم في حماس: يمكنني أن أتحدث مع أبي في ذلك لنعمل معًا.

فارس: تعلمين أنني ضد الواسطة، وسأحاول المضي قُدُمًا لإثبات نفسي وذاتي.

أعقب قائلًا: بنفسي، ودون الاعتماد على أحد. 

ريم بحزن: لكن معنى ذلك أننا لن نلتقي مرة أخرى؟ 

فارس وهو ينظر بعينيها مباشرةً: سأطمئن عليكِ إن لم يكن لديكِ مانع.

ريم وهي تشيح بنظرها بعيدًا وبتردد:

- أنا أنا...

لم تستطِع تكملة عبارتها، ليضع فارس يده على فمها في رقة وحنو:

- أنا أحبكِ أحبكِ، نعم أحبكِ ومنذُ اللحظة الأولى، أحببتكِ ولم ينبض قلبي لأحد من قبلكِ ولن ينبض لأحدٍ بعدكِ.

أحببتكِ قبل أن أراكِ، وعندما رأيتكِ أدركت أنني كنت أنتظركِ، بل أنني كنت على يقين أننا سنلتقي.

قال هذا وهو يتأمل ملامحها الملائكية، بينما داخل عينيه نظرة لا تخلو من الحزن والقلق، كانت ريم تعيش أجمل وأروع لحظاتها، بينما قلبها يدق في عنف وروحها تحلِّق نحو السماء في سعادة غامرة، نظرت نحوه تتأمله في حب بدا على ملامحها، ليقول في ألم:

- لكن هل يحق لي أن أحلم مثل هذا الحلم؟ 

أرادت ريم أن تتحدث، لكنه تابع قائلًا:

- هناك الكثير من الحواجز بيننا والكثير من العقبات، بالرغم من قربكِ لي يا ريم فأنتِ أبعد ما يكون عني، برغم أنكِ عالمي الأجمل والأروع؛ فإنَّ الواقع الحقيقي أننا من عالمين مختلفين، بل من مجرتين تفصل بينهما أجرام وكواكب، نظر بعينيها ليرى بعض دموعها قد تحرَّرت من الأَسْر بعفوية، مدَّ يده ليلتقط تلك الدمعة بإصبعه قائلًا في حب واشتياق قد بديا على مُحيَّاه:

- نعم أحببتكِ، وسأظل أحبكِ، لكن هل يكفي؟ 

ريم وفي نظرة معاتبة: وهل ظننت أنَّ ما تدَّعيه من فوارق قد يباعد بيننا؟ هل تظن أنَّ مثل هذا قد يغيِّر مشاعري؟ إن كان هذا ظنك بي فقد ظلمتني وظلمت نفسك ومن قبل هذا ظلمت حبنا.

لتقول في تحدٍّ وإصرار وثقة: سأظل على عهدي معك وسأدافع عن حبي، بل حبنا، بكل ما أُوتيت من قوة.

لتستطرد قائلةً في حب: كما أنك لا تعرف أبي جيدًا، فهو يحبني كثيرًا، كما أنه يتفاخر دومًا أنه رجل عصامي بنى نفسه بنفسه.

ما إن أنهت حديثها حتى احتضن فارس يديها بين يديه في حب وهو يقول:

- "أحبكِ وكفى".

ريم وقد دمعت عيناها فرحًا: يا الله لقد ظننت أنني لن أسمعها منك أبدًا يا فارس، لقد انتظرت سماعها منك كثيرًا، ألم تتأخر كثيرًا يا باشمهندس؟ 

فارس: أولم تشعري بها حقًّا!

ريم: نعم، لكن تذكَّر أنك لم تكن مَن أخذ الخطوة الأولى.

فارس وقد ارتسمت البسمة على شفتيه: ماذا تقصدين بذلك؟ 

ريم: سأخبرك سرًّا صغيرًا لا يعلم به أحد سواي.

أشاحت عنه ببصرها بعيدًا وهي تقول في خجل:

- هل تذكر مشروع التخرج الذي جمع بيننا؟ 

فارس: وكيف أنسى ذلك؟ لقد شعرت وقتها وكأنَّ الحياة تفتح لي ذراعيها، وأنَّ القدر قد ابتسم لي أخيرًا، نعم، لقد كانت أجمل وأروع مصادفة حدثت لي بحياتي كلها.

ريم بابتسامة صغيرة وخجل قد بدا على مُحيَّاها:

- لكنها لم تكن مصادفةً بحتة، لم تكن أبدًا مصادفة.

أعقبت كلامها بقولها: أنا مَن طلبت من الدكتور أن نكون معًا بمشروع التخرج، وهو لم يرفض وساعدني في ذلك، لأنه صديق لوالدي، كما أنه أثنى على تفوقك وأخلاقك عندما أخبرته أنني جديدة ولا صداقات لي بالكلية، وأنني أريد شخص ذكي وعلى خُلق، وهو قد أيَّدني بذلك ووعدني أن نكون معًا.

فارس: هل تقصدين أنكِ منذُ ذلك الوقت وأنتِ.... 

لم يكمل عبارته لتقاطعه ريم وهي تقول:

- نعم، قلبي هو مَن قادني إليك، لم أشعر به ينبض بهذه القوة وهذا العنف إلا عندما التقيتك، روحي أخذتني إليك وكأنني مرغَمة بلا أي مقاومة مني وبلا أي حول أو قوة.

فارس وهو يتأملها برقة وينظر إلى عينيها الواسعتين بحنو:

- هل تعلمين يا ريم وكأنكِ تتحدثين عني، بل أنتِ حقًّا تصفين حالي معكِ. 

لكنه ما لبث أن قال بألم وقد ارتسم الحزن على ملامحه:

- لكن ماذا عن والدكِ، هل سيتفهَّم حقًّا مشاعرنا؟ 

ريم: أبي يحبني وأنا وحيدته، وهو يتمنى سعادتي ولن يرفض ارتباطنا، خاصةً عندما يعلم أنك الإنسان الوحيد الذي أتمنى أن يشاركني بالحياة، وأن يكون رفيقًا لدربي.

فارس بتردد: لكن أخشى أن يظن أنني طامع بكِ وبثروته.

ريم: أنت لا تعرف أبي، فهو يثق بي وبعقلي، ويترك لي الحرية في جميع خياراتي، سأخبره عنك وعن كفاحك بالحياة، سأخبره عن شهامتك وعزة نفسك، وأنك الشخص الوحيد الذي سيحب ابنته ويحافظ عليها. 

فارس وهو ينظر إليها بتوسُّل وخوف: لكن أخشى إن رفض أن نفترق، وهذا ما لا أطيقه حقًّا.

ريم: ثِق بي ولا تقلق. 

فارس بتنهيدة عميقة: حسنًا، ما دام هذا رأيك فخير البر عاجله، حدِّثيه أنتِ اليوم وحدِّدي لي موعد معه، وسألتقيه عندما يأذن لي بذلك ويحدد لي موعدًا. 

ريم بسعادة غامرة وقد شعرت في هذه اللحظة أنها قد امتلكت الدنيا بين كفيها، سأتحدث معه مساء اليوم عندما نجتمع على العشاء.

ودَّعها فارس وهو يرسم ابتسامةً باهتةً على شفتيه، وقد نما بقلبه حنين لا ينتهي.

حدَّث نفسه قائلًا: هل سيقبل والدها كما أخبرته أم أنها حالمة أكثر مما ينبغي؟ هل يجمعهما القدر أم مقدَّرًا لهما الفراق؟ 

هل تعطيه الحياة ما يستحقه أم سيتلقَّى من الحياة صفعةً أخرى تُضاف إلى صفعاتها السابقة؟ 

ظلَّت الأسئلة تطارده وعلامات الاستفهام تحتل عقله بلا توقُّف وبلا أي إجابات، كان يدعو الله ألَّا يحرمه منها وأن يجمع بينهما، فالله وحده مَن يعلم كم يحبها، بل أنه يحبها أكثر من نفسه التي بين ضلوعه، ظلَّ هكذا حتى أتاه ذلك الاتصال الذي ينتظره ويخشاه في الوقت نفسه. 

كانت ريم هي مَن تحدِّثه وقلبها يكاد يقفز ويتراقص فرحًا، وهي تخبره أنَّ والدها وافق على لقائه مساء اليوم، فارس محاولًا مجاراتها في سعادتها:

- حسنًا، سأحضر اليوم بمفردي لأتحدث مع والدكِ، وبعد ذلك سأحضر أبي وأمي للقائه بعد موافقته إن شاء الله.

في الموعد المحدَّد ذهب فارس إلى والدها يحمل بين يديه باقةً من الزهور، ويحمل بقلبه أملًا ورجاءً موصولًا بالسماء ، أخذت منه ريم الورود بسعادة وهي تقوده إلى بهو الفيلا الفاخرة، التي ما إن دخلها فارس حتى شعر بالانقباض والتوتر يسيطران عليه، ربما لأنه أدرك وتيقَّن أنَّ المسافة بينهما بعيدة جدًّا، بل إنَّ ما يفصل ويباعد بينهما هُوَّة سحيقة، وأنَّ الفارق بينهما هو الفارق نفسه بين هذه الفيلا الفخمة وبيتهم الريفي، حاول جاهدًا إخفاء توتره بابتسامة خفيفة حاول أن يفرضها على شفتيه دون جدوى. 

قطع تفكيره وشروده سُعال خفيف مع وقع خطوات قادمة حيثُ يجلس، كان والدها وقد حضر مرحِّبًا به وهو يرسم على شفتيه ابتسامةً باهتةً لم يرتَح لها فارس أبدًا، ما زاد من قلقه وتوتره. 

نظر والد ريم إليها مبتسمًا وهو يطلب منها إحضار فنجان من القهوة بشرط أن تعدُّه بنفسها، لأنه يودُّ شرب القهوة من يديها، انصرفت ريم وهي تنظر إلى فارس بنظرة مشجِّعة. 

والد ريم: أعلم يا بُني عن كفاحك وتفوقك بدراستك، فقد حدَّثتني ريم عنك كثيرًا.

فارس في خجل: أتمنى أن أكون عند حُسن ظنك دومًا.

والد ريم: اسمعني جيدًا يا بُني، أنت إنسان جيد ونموذج للشاب الطموح وسيكون لك مستقبل جيد إن شاء الله، لكنني أب لا أملك بهذه الحياة غير ابنتي وأريد لها السعادة.

فارس: وهي تستحق السعادة، وأنا أعِدك بأنني....

والد ريم مقاطعًا في حدة: يمكنني أن أساعدك كثيرًا، اطلب ما شئت من المال لتبدأ حياتك بشكل جيد، كما يمكنني أيضًا أن أساعدك بتوصية لإيجاد عمل مميز براتب مميز، لكنني أبدًا لن أسمح لك بأن تقترب من ابنتي، فأنت لست كُفئًا لها، ولن تستطيع أن تصنع لها الحياة التي أرسمها لها مهما حاولت وجاهدت بالحياة. 

فارس وهو يشعر بالحرج: لكنني... لكننا أنا وريم....

ليقاطعه والد ريم في حسم: مهما تحدَّثت فلن يغيِّر حديثك من الواقع شيئًا، فأنا قد وعدت شريكي بالعمل أن تتزوج ريم من ابنه ويديران الشركة معًا.

استطرد قائلًا في حدة: هيا أخبرني.. هل تريد العمل أم المال أم ربما كلاهما؟ 

فارس وهو ينهض منتفضًا يعتريه الحزن والألم وبابتسامة تحمل من الوجع ما تنوء بحمله الجبال:

- شكرًا جزيلًا لكرمك البالغ يا سيدي، لكنني لست مَن تظنه.

قال هذا وهو يغادر، وكان آخر ما رآه هو ريم تحمل بين يديها القهوة، بينما نظرات عينيها حائرة فيما بينه وبين والدها. 

عندما غادر فارس كان يشعر بالعجز والاختناق، شعور مميت بالإهانة، كانت كلمات والد ريم له بمثابة سكين حاد لم يُصبه في جسده، إنما أصابه في صميم كرامته وكبريائه. 

كان آخر ما وقعت عليه عينا فارس هي عينَي ريم، التي كانت تحمل له نظرةً لم تغب ولن تغيب عنه أبدًا مهما مرَّ من الزمن، كانت نظرتها تحمل الكثير من الحب والخوف والعجز، كانت ترجوه ألَّا يتخلى عنها وألَّا يتركها مهما قست عليهما الظروف، نظرة تخبره فيها أنها عاجزة عن الصمود والتحدي إن غاب عنها أو فارقها، أنها تستمد قوتها من وجوده، وأنَّ غيابه عنها وفراقه لها يعني أنَّ مقاومتها ستنهار ولن تجد أمامها إلا الاستسلام. 

تذكَّر كلماتها له يومًا ما عندما أخبرته أنها جادلت والدها فيه، وأنها أخبرته أنه مختلف، وأنه لن يخذلها مهما حدث، تذكَّر قولها له يومها: لا حياة لي بدونك. 

صباح اليوم التالي عندما ذهب للجامعة ليرى تعيينات المعيدين؛ فهو المرشَّح الأول ليكون معيدًا بقسمه، لأنه الأول على دفعته ، لكنه ولدهشته وجدهم قد استبعدوا اسمه من كشوف المعيدين بالجامعة، كان السبب المعلن هو عدم حاجة القسم لتخصصه، وعدم مطابقته للوائح الكلية المنظمة لشَغل وظيفة معيد، بينما ما تردده الألسنة وما يتردَّد من وراء الستار أنه تم استبعاده بتوصية من والد ريم.

هناك مَن يقول أنه استُبعِد ليحل محله شخص آخر لديه واسطة ونفوذ، بجميع الأحوال لم يعد له مكان بالجامعة، ها هو حلم آخر يموت أمام ناظريه دون أن يستطيع فعل شيء، كأنَّ الحياة تعاقبه على محاولته الحلم في زمان لا يعترف بالأحلام. 

عندما جاءه عقد عمل جيد بالخليج شعر أنه طوق النجاة له، ليهرب ويبتعد عن كل شيء، كان شعوره بالمهانة والظلم له طعم مرير وشعوره بالوجع لا ينتهي، 

كم كان يتمنى أن يبذل كل جهده فى وطنه، ليعلو ويصبح في مكان أفضل له ولأبنائه من بعده، لكن كيف والفساد أصبح مهيمنًا على كل مناحي الحياة ومتفشيًا بين الجميع؟ كيف وقد أصبحت الواسطة والمحسوبية هي المؤهلات الوحيدة المطلوبة لشغل الوظائف المميزة وليس التفوق أو الجدارة. 

عامان بالخليج أصبح فارس نابغة في عمله ومميزًا جدًّا بجهده خاصةً بعد تطبيق مشروع تخرجه، لإنشاء الأبراج بتصاميم مبتكرة أهَّلته ليكون المدير التنفيذي بكبرى شركات المقاولات.

كانت إدارة الشركة أجنبيةً برأس مال عربي، وفى ظل هذه الإدارة والتي كانت معايير العمل فيها الجهد والنبوغ فقط استطاع فارس أن يشق طريقه بنجاح في شركة جمعت بين كثيرٍ من الجنسيات، فهناك مهندسون وإداريون وعمال من مصر والهند وباكستان وألمانيا وماليزيا والصومال، كان ما يجمعهم العمل الدؤوب وتحكمهم العدالة، العدالة التي أصبحت منتهكةً ومنتهية الصلاحية في أوطاننا، فأصبح الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، ضاعت القيَم والأخلاق وتفشَّت الرشوة وأصبح الروتين وقتل الإبداع هو نظام عام لا يخرج أحد عن سياقه، التملُّق والنفاق فنون مَن يجيدها يستطيع أن ينال أكثر مما يحلم به، حتى أصبح التطبيل مهنة مَن لا مهنة له وفن يجيده الجميع. 

عامان وفارس يستهلك كل طاقته ويبذل كل جهده في العمل، عساه ينسى أو هكذا ظن، لكن هيهات أن ينسى وإن جاهد فى ذلك، كان فارس يعد الثواني والدقائق ليعود لريم إنسانًا ناجحًا ومميزًا، ليكون جديرًا بها وبمشاعرها، وحتى يستحق أن يطلبها من والدها دون أن يقف أمامه مطاطئ الرأس مكسور النفس، هو يعلم أنَّ والدها يقيس كل شيء بالمادة والمظاهر مثله مثل الكثير من المجتمعات العربية، حتى وإن كان دافعه في ذلك الحب والحرص على مستقبل ابنته. 

كان يعلم أنَّ ريم ستنتظره، وأنها لن تتخلى عن حُلمهما أبدًا، ثقته فيها لا تتزعزع يستمدُّها من ثقته في حبه لها. 

كان أكثر ما يخشاه عليها بعد الفراق هو ظنها أنه خذلها أو تخلَّى عنها، لكن لا، هي تعلم أنه على عهده معها، وأنه لن يراها حتى يستحق هذا الشرف بقربها منه. 

كان يعلم أنها قوية، وأنها ستناضل بشكل أو بآخر كما يناضل هو، كان يثق بروحها كما يثق بروحه، كان يعلم أنَّ ما جمع بينهما هو القدر، "جمعهما القدَّر وفرَّقتهما الحسابات" حسابات خاطئة لا تقيم وزنًا للمشاعر أو الأحاسيس. 

ظلَّ فارس يكتب لريم كل ما يشعر به دون أن يرسله لها، كان يرسل لها رسائله عبر النجوم بالسماء والقمر، كان يشعر بألمها ووجعها الذي لا يقل أبدًا عن وجعه وألمه وعجزه.

يومًا ما وهو داخل حجرة مكتبه الفخم كونه مديرًا تنفيذيًّا للشركة 

حتمًا سنلتقي

الجزء الأخير 

ــــــــــــــــــــــ 

يومًا ما وهو داخل حجرة مكتبه الفخم كونه مديرًا تنفيذيًّا للشركة حدث ما لم يكن بالحُسبان، وما لم يخطر أبدًا على ذهنه أو تفكيره. 

كان يجلس خلف مكتبه عندما نقلت له الكاميرا أمامه مباشرةً وجهًا مألوفًا له لا يستطيع نسيانه مهما مرَّ الزمان. 

لم يكن هذا الوجه سوى والد ريم، وكم كانت دهشته لرؤيته هنا بالخليج وبالشركة التي يعمل بها! تُرى ماذا يفعل؟ ولماذا هو هنا؟ وما الذي أتى به؟ أسئلة كثيرة جالت بخاطره دون أن يتحرك من فوق مقعده.

ما إن دلف والد ريم إلى مكتب السكرتير وتبادلا التحية وبعض الكلمات ثم جلس والد ريم.

استدعى فارس السكرتير ليسأله عن هذا الشخص بالخارج وما يريده ولماذا أتى،

أخبره السكرتير أنه جاء لمقابلته يحمل ملفًّا لمناقصة كانت قد طرحتها شركتهم لإسناد بعض الأعمال لشركات المقاولات، هنا تبادرت لذهن فارس فكرة بادر بتفيذها على الفور، قال للسكرتير أن يؤخِّره لديه ويرسل له أحد الموظفين على أن يدخل من الباب الآخر لمكتبه، ومن داخل المكتب اتفق مع الموظف أن ينتحل صفته كمدير تنفيذي للشركة، وأشار له من خلال الكاميرا على والد ريم، طلب منه أن يلتقيه ويتحدث معه.

ويرى ماذا يريد، طلب منه أن يسترسل معه بالكلام ويسأله عن أسرته وحياته، وهل هو هنا بمفرده أم مع أسرته.

ما إن شرح للموظف ما يريد حتى دخل هو إلى غرفة جانبية بالمكتب بعد أن طلب من الموظف أن يسمح له بالدخول.

دخل والد ريم وقد تصبَّب العرق على وجهه وقد بدا عليه التعب والإرهاق، وكأنه قد أُضيفت عشرات السنوات فوق عمره، فلم يكن أبدًا هو الشخص نفسه الذي التقاه منذُ عامين بمصر.

طلب منه الموظف أن يستريح ويخبره بما يريد، ليقول والد ريم وقد أخرج الكارت الخاص به قائلًا:

أريد التعامل مع شركتكم وإسناد بعض أعمال المقاولات لشركتي الصغيرة،

الموظف: هل أسَّستها حديثًا؟

والد ريم: كنت أملك هنا شركةً كبيرة، لكني قمت بتصفية أعمالي لأستقر بالقاهرة منذُ عدة سنوات.

الموظف: ولمَ عُدت مرة ثانية؟ ألم يعجبك العمل هناك؟

والد ريم: ليس هذا ما حدث بالضبط، لكن تأثَّرت أعمالي هناك بسبب جائحة كورونا وتوقُّف أعمال البناء، نظرًا للحظر الطويل، كما أنَّ انهيار العملة وتدنِّي أسهُم الشركة بالبورصة وسوء الاقتصاد بوجه عام قد ساهم في خسارتي معظم أسهم الشركة وخسارة أموالي، ولم أجد أمامي سوى العودة إلى هنا لأبدأ من جديد.

الموظف: وماذا عن أسرتك؟ هل أنت بمفردك أم جئت بصحبة العائلة؟

هنا تنهَّد والد ريم تنهيدةً حزينةً حملت الكثير من الوجع مع آهة طويلة حملت الكثير من الألم والحزن والأسى، ليقول وهو يجاهد لوأد دمعات غادرت عينيه وانسابت على وجنتيه، وضح التأثُّر على ملامح وجهه وهو يقول:

لا أملك في هذه الحياة سوى ابنتي، التي وللأسف قد سبَّبت لها الحزن والتعاسة مدى الحياة.

استطرد قائلًا: نعم، أنا مَن أضعت ابنتي، أضعتها للأبد.

كانت هذه الكلمات كافيةً ليتهاوى قلب فارس بين قدميه متسائلًا:

تُرى ماذا يقصد بذلك؟ هل يقصد أنَّ ريم قد...

لم يطاوعه لسانه أو قلبه على نطق كلمة الموت، طرد هذا الهاجس من عقله ليفكر مليًّا وهو يقول: تُرى هل يقصد أنها تزوجت رغمًا عنها؟ أم أصابها مكروه؟

مجرد تفكيره أن ريم ليست بخير دون حتى أن يعرف السبب أصابه بالوجع.

لم يخرجه من تساؤلاته سوى صوت الموظف وهو يوجه حديثه لوالد ريم قائلًا:

ماذا تقصد بذلك؟

والد ريم وقد اغرورقت عيناه بالدموع: للأسف لم أصدِّق ابنتي عندما أخبرتني أنه لا حياة لها دون مَن خفق له قلبها وتاقت له روحها، لكن على ما يبدو فقد كانت تعني كل حرف من حروف هذه العبارة، ظننت أنها قليلة خبرة بهذه الحياة، وأنَّ ذلك الشاب ليس سوى طامع بثروتنا ومركزنا الاجتماعي يريد التسلق على أكتافنا، أردت أن أؤمِّن لها حياة سعيدة مع شخص يناسب وضعنا المادي الاجتماعي، أردت أن أزوجها لابن شريكي في العمل حتى يتقاسما ما تعبنا عليه لسنوات.

ليقول في حزن: ظننت أنها وبمرور الوقت ستنسى وتمضي في الطريق الذي رسمته لها، لكن هيهات، فهي لم تنسَ ولم أحقق أنا لها حلمها ولم أؤمِّن لها رغد الحياة.

أردف قائلًا: قد ذهب المال والمركز المرموق وتنكَّر لي الجميع وأداروا لي ظهورهم، ومن سخرية القدر أنَّ أول مَن تخلَّى عني وباعني هو شريكي، حتى إنه زوَّج ابنه لابنة مدير أحد البنوك، حتى يسهِّل له قرضًا دون ضمانات، ليعزِّز مركزه المالي بالسوق.

زفر بعمق وهو يتنهد قائلًا: وهأنذا كما تراني أحاول جاهدًا البدء من جديد بعد أن لقَّنتني الحياة درسًا لا يُنسَى.

الموظف بلهفة: لكنك لم تخبرني ماذا عن ابنتك وماذا حدث لها؟ هل هي معك هنا أم ما زالت بمصر؟

الأب بحزن وأسى بالغَين: لقد أُصيبت ابنتي بحالة نفسية سيئة أفقدتها القدرة على الحركة، فقدت الرغبة بالكلام حتى الطعام والشراب كأنها قد زهدت بالحياة، أو ربما تعاقبني على جرمي في حق قلبها، ما زالت حتى الآن تنظر لي نظرات صامتة تحمل الكثير من العتاب، عتاب لا أقدر على تحمُّله وكأنها تعاقبني في صمت دون حديث أو شكوى.

أخذ نفَسًا عميقًا قبل أن يقول: وهي هنا بصحبتي، لكنها داخل المشفى، فلم تعد ابنتي كما كانت مثالًا للجمال والذكاء والنشاط، لقد حوَّلتها بغبائي وأنانيتي إلى حُطام.

أردف قائلًا: أحضرتها معي، لأنني آخر مَن تبقى لها بعد وفاة والدتها.

ذكر اسم المشفى الذي تقيم به للعلاج، بعد أن سأله الموظف بطريقة غير مباشرة متمنيًا لها الشفاء العاجل.

ما إن انتهى الحديث بينهما حتى أخذ الموظف ملف شركته على وعد بالاتصال به قريبًا.

غادر الرجل حزينًا مهمومًا وهو يأمل أن يكون هناك تعاون فيما بينهما بالمستقبل القريب.

بالمساء وبالمشفى حيثُ تتواجد ريم احتضن والدها يدها بين يديه محاولًا بث الدفء لأوصالها، معتذرًا لها في صمت عمَّا ارتكبه من إثمٍ في حقها، نعم، هو إثم حتى وإن كان دون قصد، لقد جنى عليها وهو يظن أنه يحميها، أليست هذه جريمةً حتى وإن كان القانون لا يعاقب عليها؟

جاء الممرض وهو يحمل بين يديه بوكيه فاخر من الزهور مرفقًا معه كارت فاخر يحمل الأمنيات القلبية بالشفاء العاجل لريم، وكان التوقيع "المدير التنفيذي" دون ذكر للاسم، تهلَّلت أسارير وجهه وهو يخبرها عن ذلك الرجل ومدى أهميته بالنسبة إليه، وأنه الوحيد القادر على مساعدته للخروج من كَبوَته، أشاحت ريم بوجهها بعيدًا دون اكتراث.

كان الممرض يستأذنه بدخول صاحب البوكيه، ضبَط الغطاء على ريم بعد أن عدَّل من حجابها ثم سمح له بالدخول.

ما إن دخل فارس حتى ألجمت المفاجأة لسان والد ريم، للحظات لم يربط بين فارس والمدير التنفيذي، لكن فرحته برؤية فارس جعلت دموعه تنهمر كالمطر، وكأنه قد وجد طوق النجاة لريم، نعم، فارس هو طوق النجاة حتى تُشفَى ريم وتعود لها حياتها من جديد، وليتحرَّر هو من عُقدة الذنب التي تؤرِّق مضجعه.

رحَّب بفارس بحرارة وهو يحمد الله، قدَّم فارس نفسه لوالد ريم بصفته مدير الشركة وصاحب الكارت، أخذ والدها يُطالعه في حيرة وقد أدرك أنهما الشخص نفسه، تقدَّم فارس نحو ريم يحتضن يدها ودموعه تسيل من عينيه قائلًا:

سامحيني يا نبض القلب ومُناه، فما ابتعدت إلا لأقترب وأكون جديرًا بكِ.

لم يقطع كلماته وحديثه سوى والد ريم وهو يقول بصوته المتحشرج:

لقد ذهبت إلى قريتك وسألت عنك وعن أهلك، لكن أخبروني أنهم قد غادروا إلى القاهرة، ولا يعرف أحد مكانهم.

صدِّقني يا بني لقد أدركت جُرمي بحقكم وأردت إصلاح الأمر، لكن وكما يبدو فقد كان الوقت متأخرًا وقد فات الأوان.

فارس: هذا حقيقي، فأنا وما إن تحسَّنت أموري حتى اشتريت منزلًا لعائلتي ليقيموا به، فلم أكن لأترك أهلي وأستمتع بحياتي وأعيش فقط لنفسي.

قطع حديثهما صوت ريم الواهن يخرج من بين شفتيها ضعيفًا وهي تردد:

لماذا؟ لماذا تركتني يا فارس وأنت تعلم أنه لا حياة لي من دونك؟ لماذا خذلتني؟ لماذا أخذت قلبي وروحي ورحلت عني، بالله أخبرني كيف أحيا بلا روح وقلب، هل هُنت عليك لتتركني هكذا؟ هل هان عليك حبنا وحُلمنا؟

فارس: سامحيني يا حلم عمري وتوأم روحي، سامحيني يا مُنية القلب.

أردف قائلًا: يعلم الله أنني فارقتكِ ولم تفارقيني، حتى قلبي وكأنه قد توقَّف عن النبض عندما ابتعد عنكِ، وكأنه يستمد نبضه منكِ، فهو ينبض بكِ ولكِ.

والد ريم: أنا المخطئ الوحيد هنا، ليس الذنب ذنبكما، أنا مَن أجرمت في حقكما، أنا مَن قسوت عليكما، لكني -ويشهد الله- قد أخذت عقابي مضاعفًا.

فارس وهو ينظر لريم: وما زالت يدها بين يديه:

سامحيني حبيبتي، لكني أردت أن أثبت لوالدكِ أنني جدير بكِ وبحُبكِ وبقلبكِ ومشاعركِ.

ريم وهي تستند على يد فارس محاولةً النهوض:

عِدني أنك لن تتركني مرة ثانية جسدًا بلا روح، عِدني أنك ستحافظ عليَّ وعلى حلمنا معًا، وأنك لن تخذلنا مرة أخرى، عِدني بذلك يا فارس.

فارس: أعدكِ يا مُنية الفؤاد، أعِدكِ بهذا وأقسم بحُبكِ، بعد هذه اللحظة لن نفترق أبدًا.

ليحتضنها بعينيه وهو يقول في شغف: وهل أنتِ إلا بضعة مني؟

خرج ثلاثتهم من المشفى وقد استعادت ريم أنفاسها مرة أخرى بعودة فارس إليها، ليتوج هذا العشق الطاهر وهذا الحب الصادق إلى تلاقٍ أبديٍّ، تلاقٍ حلُما به كثيرًا، وليؤكدا أنَّ الحب الحقيقي عندما يكون صادقًا فهو قادر على صنع المعجزات ومواجهة كل الصِّعاب والتحديات، وليمهِّد لهما القدر طريقًا للسعادة استحقا أن يسيرا فيه معًا، فلا يبتعدان ولا يفترقان، وليتحقَّق الحُلم بتلاقي الأرواح؛ فتنبض القلوب معلنةً تتويج حبٍّ صادق وُلِد ليعيش.

تمت

إحصائيات متنوعة مركز التدوين و التوثيق

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
3↓الكاتبمدونة غازي جابر
4↓الكاتبمدونة خالد العامري
5↓الكاتبمدونة محمد شحاتة
6↓الكاتبمدونة خالد دومه
7↑4الكاتبمدونة آمال صالح
8↑1الكاتبمدونة اشرف الكرم
9↑3الكاتبمدونة ايمن موسي
10↓الكاتبمدونة ياسر سلمي
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑64الكاتبمدونة سارة القصبي42
2↑32الكاتبمدونة ايمان قادري150
3↑32الكاتبمدونة إيناس عراقي190
4↑16الكاتبمدونة عبير مصطفى44
5↑15الكاتبمدونة ولاء عبد المنعم196
6↑13الكاتبمدونة رهام معلا127
7↑12الكاتبمدونة نجلاء البحيري39
8↑7الكاتبمدونة عبد الوهاب بدر23
9↑7الكاتبمدونة مني قابل77
10↑5الكاتبمدونة آيات القاضي115
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1110
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب713
4الكاتبمدونة ياسر سلمي677
5الكاتبمدونة اشرف الكرم604
6الكاتبمدونة مريم توركان573
7الكاتبمدونة آيه الغمري513
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني436
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين426
10الكاتبمدونة سمير حماد 410

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب362606
2الكاتبمدونة نهلة حمودة215472
3الكاتبمدونة ياسر سلمي198792
4الكاتبمدونة زينب حمدي178293
5الكاتبمدونة اشرف الكرم143855
6الكاتبمدونة مني امين120145
7الكاتبمدونة سمير حماد 116676
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي107684
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين107152
10الكاتبمدونة آيه الغمري102347

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة مريم فرج الله 2025-10-24
2الكاتبمدونة هاميس جمال2025-10-22
3الكاتبمدونة ايمان صلاح2025-10-18
4الكاتبمدونة خالد الخطيب2025-10-15
5الكاتبمدونة سلوى محمود2025-10-13
6الكاتبمدونة بيان هدية2025-09-27
7الكاتبمدونة محمد فتحي2025-09-01
8الكاتبمدونة أحمد سيد2025-08-28
9الكاتبمدونة شيماء حسني2025-08-25
10الكاتبمدونة سارة القصبي2025-08-24

المتواجدون حالياً

1564 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع