هل تساءلتم يومًا عن تلك الأرواح النقية التي ترحل فجأة بلا موعد ولا إنذار؟
أتراها لم تُخلق لتستقر طويلًا على هذه الأرض؟ أم أنها تعبت من زيف المشاعر وقسوة القلوب، فاختارت العودة إلى موطنها الأول قبل أن تفسدها الدنيا؟
الأكيد أن الطيبين يرحلون سريعًا… كزهور هشّة لا تحتمل جفاف هذا العالم القاسي.
وما أقسى أن نكتشف قيمتهم بعد الرحيل! كم من مبدع قضى عمره منسيًّا، محاصرًا بالتجاهل، لم يلتفت إليه أحد وهو حيّ، حتى إذا غيّبه الموت انهالت كلمات الثناء، وتحوّل فجأة إلى أسطورة وأيقونة! لكن هل يُجدي الاعتراف بعد أن غابت روحه وصار جسدًا تحت التراب؟ أليس من الأولى أن نمنحهم دفء التقدير وهم بيننا؟
وكم من والد أو والدة أرهقهم الكدّ والسهر والتضحية، فلم نرد لهم الجميل، ولم نُظهر لهم الحب إلا بعد أن احتضنهم الغياب. عندها فقط نملأ قبورهم بالدموع، ونغرق ذكراهم بالكلمات التي بخلنا بها وهم أحياء. أيّ حبّ هذا الذي لا يُقال إلا في حضرة الفقد؟
وهكذا يعيش بيننا كثيرون… أزواج وزوجات، إخوة وأخوات، أصدقاء ورفاق درب، رؤساء ومرؤوسون، يتمنّون لمسة حنان، كلمة تقدير، نظرة رضا، أو حتى ابتسامة تبعث الدفء في قلوبهم. لكنهم لا يجدونها إلا بعد أن يرحلوا، حين لا يُجدي الندم ولا تُجدي الحسرات.
وكم تتشابه الحياة مع قطار سريع، يمضي بنا دون توقف، لا يمنحنا فرصة النزول عند المحطات التي نحبّها، ولا يتيح لنا أن نطيل البقاء مع من نحبّهم. يمضي مسرعًا، تاركًا خلفه وجوهًا وذكريات وأرواحًا كان يجب أن نمنحها شيئًا من وقتنا وحبّنا قبل أن يفوت الأوان.
لطفًا، اقتربوا من أحبتكم قبل أن يبتلعهم الغياب. لامسوا أرواحهم بكلمة صادقة، بابتسامة ودودة، بلمحة حبّ تشفي قلوبهم من عناء الانتظار. قولوا لهم إنهم يعنون لكم شيئًا، وإن وجودهم هو سندكم ودفء أيامكم.
لا تؤجّلوا الحب، فالرحيل لا يمنحنا مهلة، والموت لا يطرق الباب ليستأذن. كلنا ـ شئنا أم أبينا ـ جنازات مؤجّلة، لا ندري من يودّع من، ولا من سيكون المشيّع ومن سيكون المشيَّع.
فامنحوا الطيبين ما يستحقون من حبّ واعتراف قبل أن يأخذهم القدر بعيدًا. وحينها، لن يبقى لنا إلا صدى الندم، وذكريات قلب لم نقل له في الوقت المناسب: كنت الأجمل بيننا، وكنت الأصدق فينا، وكنت الحياة التي لم نُحسن أن نُعطيها ما تستحق.
في النهاية، لسنا مخلّدين على هذه الأرض، ولسنا نملك من الغد شيئًا. كل ما نملكه هو هذه اللحظة، هذا الحضور، وهذه الكلمة التي قد تُحيي قلبًا أو تُنقذ روحًا من الانكسار. فلا تجعلوا أحبتكم ينتظرون اعترافًا يأتي متأخرًا، ولا حبًّا يُكتب على شواهد القبور.
امنحوا من تحبون عبير الورد في حياتهم… قبل أن تضعوا ورودًا ذابلة فوق نعوشهم وقبورهم.