اليوم الأخير بالعمل، ولأول مرة يشعر عم ربيع –كما يحلو له أن يناديه العاملون بالصحيفة– بهذه المشاعر المتضاربة منذ تعيينه موظفًا بأرشيف صحيفة البداية.
تساءل بينه وبين نفسه: تُرَى.. هل هو سعيد بانتهاء الأشغال الشاقة –كما كان يسميها– ومقبرة الروح –كما يطلق على مكتبه بالأرشيف ساخرًا– أم أنه حزين لتركه العمل الذي تعود عليه منذ أربعين عامًا!
هل تصبح العادة إدمان حقًّا!
ربما هو لا يدري عن حقيقة مشاعرة الدفينة.. هل يحب عمله أم يكرهه!
نظر إلى الموظفين وهم يتبادلون النظرات نحوه: أتراهم مشفقين عليه أم فرحين بمغادرته! ربما لا هذا ولا ذاك. كم هي عميقة المشاعر الإنسانية! وكم من الصعب إدراك كنهها على حقيقتها لا كما تبدو!
مع كثرة التساؤلات وعلامات الاستفهام بداخل عقله، حدث نفسه قائلًا: هل حقًّا عندما يصبح الضجيج بعقولنا صاخبًا ولا يحتمل، يحل صمت مميت يحتل كل الأركان!
مع نهاية اليوم –وكالعادة بالهيئات والمصالح الحكومية– أعد له زملاؤه بالعمل حفلًا بسيطًا للتعبير له عن حبهم له وامتنانهم لما قدمه على مدار هذه السنوات الطويلة، ابتسم ساخرًا.. فهذا الحفل يبدو له وكأنه حفل تأبين، تناول حقيبته الجلدية، وضع بها أشياءه البسيطة وشهادة التقدير وغادر بعد أن ألقى النظرة الأخيرة على أربعين عامًا سيتركها خلفه وكأنها لم تكن.
سار عم ربيع بالرواق الطويل، والذي بدا وكأنه لا نهاية له، بنهاية الرواق كان هناك درج يفضي للأسفل للمغادرين، وعلى يمينه درج يفضي للأعلى للصاعدين لمكتب رئيس التحرير والمحررين، وباقي أقسام الصحيفة.
وعلى عكس اتجاه عم ربيع –والذي كان يجب أن يسلك الدرج الذي يفضي للأسفل– وجد نفسه مدفوعًا للدرج الذي يفضي للأعلى، كالمغيب كان يصعد الدرج بلا وجهة محددة، هل حقًّا سيصعد للأعلى وهو من عاش حياته يخشى الصعود للأماكن المرتفعة والشاهقة حتى أصبح مشهورًا بين الجميع بفوبيا الأماكن المرتفعة!
هل هناك علاقة بين عملة بالأرشيف ببدروم الصحيفة وخوفه من الأماكن الشاهقة!
حدث نفسه قائلًا: هذا اليوم هو الأخير لي هنا، وهذه فرصتي الأخيرة للتغلب على مخاوفي.
رغبة جامحة سيطرت عليه، شعور بالإثارة والتحدي قد تملك منه واستولى على كل حواسه.
كرر كلماته محدثًا نفسه: "أليس الرب واحدًا والعمر واحدًا! لِمَ نعيش أسرى للخوف من المجهول"!
كم من لحظات ضاعت من بين أيدينا بسبب مخاوف ليس لها وجود سوى بعقولنا! هل حقًّا يصعب علينا التحرر من مخاوف نحن صنعناها بعقولنا وغذيناها فكبرت وتغولت حتى أصبحت تتحكم بنا!
هل نحن أسرى لسجن صنعناه بأيدينا والسجان هو الخوف!
شعر بالدماء تجري بعروقه وكأنه قد أصبح شابًّا بالعشرينات من عمره، عندما بدأ حياته المهنية بهذه الصحيفة بنفس البناية، والتي لم تكن سوى ثلاثة طوابق وقد أصبحت الآن (13) طابقًا.
كان قرار عم ربيع حاسمًا وقاطعًا بنفس الوقت، فهو سيصعد إلى الطابق الأخير وسينظر من هذا العلو الشاهق إلى أسفل، ولن يتراجع للخلف ككل مرة.. وفرائصه ترتعد وقدماه تصبحان بلا قيمة، فلا تقويان على حمله، وأسنانه تصتك ببعضها البعض ليشعر برغبة عارمة في التكوم على نفسه، والتقوقع بوضعية الجنين حتى يستعيد نفسه ورباطة جأشه مرة أخرى، بعد جهد يستهلك الكثير من كرامته ومشاعره.
كم كان يخجل من نظرات الأقارب والأصدقاء لعلمهم بخوفه الشديد من الأماكن المرتفعة، ولكن لا.. لن يستمر هذا بعد الآن، سيتغلب على خوفه سيهزم قهره ليشعر بوجوده من جديد.
قرر الصعود على الدرج بقدمية درجة درجة، وكأنه يحاول كبت انفعاله وقلقه والتغلب على ما يعتريه من توتر، كان كل طابق يمثل له مرحلة عمرية من حياته: نشأته، وطفولته، ومراحل التعليم المختلفة، وشبابه، حياته الزوجية، وأبناءه.
أثناء صعوده لم يكن يعبأ بالصاعدين أو المغادرين، كان يرد التحية بلا وعي، الآن أصبح قريبًا للغاية، هل يكمل أم يتراجع!
هاتف داخلي يقول: له ما زلت بأمان فلا تغامر.. ما زال الوقت ممكنًا للتراجع والعودة للمنزل بسلام وبأقل الخسائر.
ليرد عليه هاتف آخر وبعنف وكأنه يزلزله: أن تموت شجاعًا وحرًّا خير لك من الحياة جبانًا وتافهًا أم أنك قد تعودت على الخنوع والذل والمهانة.
انتفض محدثًا نفسه بقوة: كلا لا تراجع ولا استسلام.
هذا التحدي هو من سيعيد له كبرياءه الضائع منذ صباه وحتى تلك اللحظة الحائرة، وهو على مشارف الستين من عمره، والذي شعر أنه قد سُرق منه دون أن يدري.
أصبح الآن على مشارف الطابق الأخير، لا صوت يعلو على صوت المعركة، وأنفاسه المضطربة ودقات قلبه التي تحولت إلى ضجيج داخلي.. دلف إلى باب المدخل المؤدي إلى السطح، كم كان المنظر مهيبًا من هذا العلو الشاهق!
وقف بالمنتصف والعرق يتصبب من جبينه بغزارة، وهو يشعر بدوار كاد يفقده وعيه، تناول منديلًا ورقيًّا ليزيل عرقه، وربما بعض توتره.
تأمل السماء الزرقاء وقرص الشمس يتوسطها ليجعل لكل شيء ظلًّا، نظر إلى ظله على الأرض، وكأنما يريد أن يتحدث معه ليثنيه عن قراره، وها هي نفس الأعراض تتكرر مرة أخرى، فهو لا يشعر بقدميه، رغم أنه ما زال بالمنتصف ولم يتجه إلى حافة السطح، كان من موقعه يرى كل شيء من حوله صغيرًا، تقدم ببطء باتجاه السور، يقدم قدمًا ويؤخر أخرى بخوف وهلع.
ماذا بك يا ربيع! هل حقًّا تخشى الموت!
هكذا حدث نفسه ليرد عليها: وهل تسمي ما عشته وتعيشه حياة!
قرأ بعض ما يحفظ من آيات القرآن، وردد بعض الأدعية متجهًا ناحية السور بجسده المتهالك، دقائق مرت علية كالساعات، وهو يقاوم خوفه وعجزه، وبالنهاية وصل إلى حافة البناية.. مرت عليه الدقائق ثقيلة وكأنها دهرًا.
أغمض عينيه.. فلم يجرؤ أن ينظر من هذا الارتفاع الشاهق دفعة واحدة، أخذ يتمتم بشفتيه محاولًا فتح عينيه ببطء وهدوء، بعد عدة محاولات نجح بذلك ونظر إلى الأسفل، شعور بالدوار وألم بمعدته، وتثاقل بقدميه، حتى ريقه قد جف ورؤيته أصبحت مشوشة.
كم أراد أن يتكور بمكانه ليجلس؛ حتى يلتقط أنفاسه ولو لثوانٍ، جاهد كثيرًا ليظل واقفًا وهو ينظر إلى الأرض تارة، وإلى السماء تارة أخرى.
مرت دقائق حتى شعر بأنفاسه تنتظم، ودقات قلبه تعاود النبض، وأصبحت قدماه أكثر ثباتًا، شعر بارتياح وسعادة غامرة وهو ينظر إلى السماء وكأنه يراها لأول مرة بحياته، لأول مرة يشعر بأنه على قيد الحياة، وأن خوفه الذي ظل أسيرًا له عمره بأكمله كان بلا مبرر وغير منطقي.
هل حقًّا نحن من نصنع خوفنا حتى يصبح فزاعة تنغص علينا حياتنا وتجعلنا أسرى للوهم وظلام الجهل! وكيف نخشى من شيء نجهله ولم نتعامل معه!
فجأة وبلا أي مقدمات وبلا تفكير مسبق، وبخطوة مفاجئة وربما متهورة، وكأنها تتويج لما حدث، وتأكيد على انتصاره المؤزر، قفز عم ربيع إلى سور السطح ليقف عليه، فجأة أصبح عم ربيع يقف على السور رافعًا ذراعيه وكأنه يحتضن الحياة التي حرم نفسه منها على مدار سنوات عمره الطويلة.
لأول مره يشعر وكأنه قد امتلك الكون كله، أغمض عينيه رافعًا راسة للأعلى، ولم يشعر بنفسه إلا وهو يتهاوى من هذا الارتفاع الشاهق باتجاه الأرض.
الغريب بالأمر أنه لم يشعر بالخوف أو القلق.. كان يشعر أنه أصبح خفيفًا للغاية وكأنما قد تحول إلى ريشة بمهب الريح تحركها الرياح يمينًا ويسارًا، ولأول مرة بحياته يشعر أنه حر بلا أي قيود.
الآن هو يرى حياته بكل وضوح، وكأنها شريط سينمائي أمام عينيه: أسرته، وحياته، أمه، وأبيه، وأخوته، ودراسته، أقاربه، وجيرانه، وزملاءه، عمله، وما مر عليه من محررين وأدباء، حقب مرت بها البلاد، مانشيتات تم تغييرها لعدم رضا البعض عنها، وصحفًا تمت مصادرتها حتى لا يغضب المسؤولين، إنجازات تم محو من قاموا بها ليتم وضع اسم المسؤول الحالي، وكأن التاريخ يعيد نفسه منذ عهد الفراعنة وحتى الآن، عندما كان الفرعون يزيل اسم الفرعون السابق من على المعبد ليضع اسمه والذي سيزيله من سيأتي بعده.
تاريخ مشوه وحقائق مزيفة وفساد متواصل وعقول مغيبة، فزاعات تستخدمها الدول وأخرى نستخدمها نحن فيما بيننا بالبيت والعمل والشارع.
كان جسده يهوى وروحه تصعد بعكس قانون الجاذبية، الآن يشعر باقترابه من الأرض، لا شك أن الارتطام سيكون قويًّا وقاسيًا، ولكن لا بأس.. كان الأمر يستحق هذا وأكثر، شعر بهزة عنيفة تجتاح أوصاله.
العجيب بالأمر أنه كان يشعر بما يدور حوله، وكأنه مشارك بالحدث، وليس بمعزل عنه، كأنه يرى خيالات وأشخاص يتحركون بسرعة بملابسهم البيضاء، والكثير من الأجهزة الموصولة برأسه وقلبه، وكان آخر ما سمعه هو قول أحدهم وهو يتنهد بعمق: لم أرَ بحياتي حالة كهذه، لقد كانت جلطة قوية أصابته بآخر يوم له بعمله وهو جالس على مكتبه.. وعندما أتى به زملاؤه إلى المستشفى كان بين الحياة والموت، بل لقد فقدناه بالفعل لمدة عشر دقائق كاملة، وكما تعلمون فتوقف القلب لعشر دقائق كان كفيلًا بتوقف الدماغ لعدم وصول الأكسجين إليه وتلف الأنسجة، ولكنه قد عاد بمعجزة حقيقية، لقد فعلنا ما بوسعنا والشفاء يأتي من عند الله.
تمت