نهضت بهية كعادتها كل صباح، أعدَّت الإفطار لإخوتها الصغار، ثُمَّ جهَّزت بعض الأرغفة من العيش الشمسي والقليل من الجُبن القديم المغموس بالمش لنفسها، لتضعهما داخل المخلة() مع بعض حبَّات الطماطم، لتأكلهم مع زميلاتها عندما يشعرن بالجوع أثناء ورديتهن النهارية بمعمل الطرشي والمخللات، الذي أُقيم على أطراف القرية المحذوفة من فوق الخريطة، كان معمل الطرشي مشروعًا كبيرًا بالنسبة لأهل القرية الذين استبشروا به خيرًا، فهو لا شك سيوفر فرص عملٍ كثيرةً لشباب وبنات القرية.
يمتدُّ طريق بهية لمعمل الطرشي بين الحقول والأراضي الزراعية، لحظات من المرح هي الفاصل الزمني ما بين بيتها ومعمل الطرشي تقضيها في مُداعبة الفراشات ومُشاكسة "أبو قردان" بلونه الأبيض وساقيه النحيفتين، تسارع الخُطى في نشاط؛ خوفًا من خصم شيءٍ من أُجرتها، فهي بحاجة لكل قرشٍ تجنيه أثناء العطلة المدرسية، لتنفق على دراستها بمدرسة التجارة الثانوية خاصةً أنها بسنتها الدراسية الأولى، كانت تحلم بتكملة تعليمها لتدخل الجامعة، لمَ لا، يمكنها فعل ذلك لتصبح أول فتاة جامعية في قريتها تغادر إلى المدينة ذات الأضواء الساطعة، المدينة التي تعيشها في خيالها، وتحلم أن تعيش فيها مع فتى أحلامها عندما تبلغ مبلغ النساء، مدينة لا تشبه القرية، فالمدن -كما سمعت- لا تنام ليلًا أو نهارًا، وهكذا يفخر بها أبوها وتسعد لسعادتها أمها.
وصلت إلى معمل الطرشي لتجد بعض الأطفال قد سبقوها بالحضور، أطفال في عمر الزهور لا تتعدَّى أعمارهم العشر سنوات، ربما أكبرهم عمرًا في مثل عمر بهية أو يزيد قليلًا، التي كانت في منتصف عقدها الثاني.
كانوا أطفالًا يقومون بأعمال الكبار، مهمتهم جمع الثمار الطازجة المشتراة من الأراضي المجاورة، ثُمَّ فرز الخضراوات وتوزيع العمل فيما بينهم، بعضهم يتعهَّدون بجمع الفلفل واللفت والجزر، وآخرون يقومون بجمع الليمون والخيار والبصل والزيتون والقرنبيط ثم غسلهم جيدًا وتقطيعهم ووضعهم داخل البراميل المخصَّصة للتخليل كلٍّ على حدة حسب ما علَّمهم صاحب المعمل، الذي كان يضع اللمسات النهائية من وضع الملح والزعفران والبهارات والدَّقَّة حسب المقادير المناسبة لكل صنف، كان صاحب المعمل رجل أعرج ذا ملامح غليظةً يُسمَّى غريب، تجاوز من العمر عقده الرابع، يناديه الجميع بعم غريب وهو اسم على مسمى، فهو غريب ليس من قريتهم، إنما سكن بينهم بعد أن أخبرهم أنه عاد من غُربته بالمال، ويريد أن يستثمره ويستقر بينهم.
جميع العاملين لديه من الأطفال المتسربين من التعليم أو الذين يحاولون المواصلة دون أمل، كان يختارهم بعنايةٍ شديدةٍ وبمواصفات خاصة كما يقولون "لحاجةٍ في نَفس يعقوب" فهو يتفحَّصهم ويختار مَن يمتازون بالخجل وقليلي الكلام، جميع الأطفال ذكور كانوا أو إناث يخشونه ويهابونه، فهو مَن يعطيهم أجرتهم، كما أنه مَن يخصم منهم ويكافئهم إن كان راضيًا عنهم أثناء العمل، فضلًا عن أنه لديه كلب شرِس يمسك بطوقه، كثيرًا ما تعرَّضوا للخوف والهلع عندما كان يهدِّدهم به إن قصَّر أحدهم أو أغضبه.
من طقوس غريب اليومية تدخينه للشيشة في غرفة جانبية شبه مظلمة، ما إن يدخلها حتى يستدعي إحدى الفتيات لتكون في خدمته، فتعدُّ له الجمر وتهيِّئ له الشيشة، وضع غريب قانونًا صارمًا لا يُخطئه أحد وهو عدم الدخول إلى الغرفة مهما كانت الأسباب قبل أن يأذن هو بذلك، كما أنه يضع طفلًا كلما دخل الغرفة ليراقب مدخل المعمل ويخبره حال حضور أغراب أو أحد أولياء أمور العاملين لديه، رغم أنه بنهاية اليوم كان يمنح الفتيات اللاتي يخدمنه بعض الجنيهات مكافأةً إضافيةً لهن، فإنَّ الجميع كانوا يخشون الدخول إلى تلك الغرفة معه، عندما كان يستدعي إحداهن كان بقية الأطفال يتغامزون ويتلامذون فيما بينهم، بينما مَن وقع عليها الدور تذهب مرغَمةً كشاةٍ تُساق إلى ذبحها.
في يومٍ ما، طلب من بهية أن تسبقه وتذهب إلى الغرفة لتعد له الشاي وتهيِّئ له الشيشة، لكنها رفضت بشكلٍ قاطع وقالت إنها لا تجيد عمل ذلك، تكررت محاولاته وتكرر رفضها، هدَّدها بفصلها عن العمل فلم تستجِب، أعيته معها كل الحيَل، وكلما رفضت هي أصرَّ هو وكرَّر محاولاته، في يومٍ ما أثناء جمع البصل وبينما كانت بهية تغسله قبل تجهيزه، أمسك غريب بفحل بصلٍ له حرش أخضر "غير مكتمل النضوج" ليُلقي به في خُبثٍ نحو الغرفة المظلمة، ثم نهَر بهية وهو يصيح في غضب قائلًا:
- ماذا تفعلين؟ هل تغسلين البصل أم تُلقينه على الأرض؟
كان يصرخ وينهرها وهو يشير بإصبعه نحو الغرفة معقِّبًا أنها أوقعت فحل البصل الذي تدحرج داخل الغرفة المترَّبة، في خوفٍ وصمتٍ توجَّهت بهية نحو الغرفة، لإحضار ما قال إنها أوقعته، تسلَّل خلفها في خفةٍ وهدوء، وما إن أصبحت داخل الغرفة وأيقن أنها دخلت إلى الفخ وأنه قد ظفر بها حتى دخل خلفها وأغلق الباب من الداخل بالمزلاج، تعالى صراخ بهية بالداخل في رُعبٍ وفزعٍ وقد توجَّست منه خيفة، توسَّلت إليه أن يدَعها وشأنها ويتركها تخرج لتكمل عملها، أخبرته أنها تخشى الظلام وتخاف من الكلب الذي تعالى نباحه محاولًا الفِكاك من قيده، لكن دون جدوى فقد ذهبت كل توسُّلاتها إليه أدراج الرياح، كانت نظراته نحوها تُصيبها بالخوف والقشعريرة، نظراته النهِمة تشبه نظرات جائع يستعد لالتهام وجبته الشهية، تعالى صوتها وهي تصرخ وتطرق الباب من الداخل في محاولةٍ يائسةٍ لفتحه، مع صوت نباح الكلب الذي كان يشبه الزئير وصراخ بهية وطرقاتها على الباب تجمَّع الصبية من الخارج في محاولةٍ بائسةٍ لإنقاذ بهية، لكن دون جدوى ليُصيبهم الرُّعب وتتعالى صرخاتهم دون مجيب.
دقائق مرَّت عليها وعليهم كالدهر، لتخرج بهية ممزَّقة الملابس تغطي الدماء راحة كفها اليُمنى وتلطِّخ مقدِّمة جلبابها الأبيض المزركَش بالورود الحمراء بقعةٌ من الدماء الداكنة، كانت تبكي، وبنظرةٍ جانبيةٍ داخل الغرفة كان غريب ممدِّدًا فوق الأرض ينزف الدماء بغزارةٍ من فخذه اليسرى بعد أن طعنته بهية بالماشة()، وما إن وقع بعد أن خذلته رجله العرجاء عندما حاول الاستناد عليها في محاولةٍ منه للضغط على مكان تدفق الدم حتى عاجلته بهية بضربةٍ قويةٍ أسفل عُنقه بفحل البصل الذي ألقاه غريب داخل الغرفة ليستدرجها للداخل، ما إن تلقَّى غريب الضربة أسفل عُنقه حتى فَقَد وعيه تمامًا.
عادت بهية للبيت بصُحبة بعض الفتيات اللواتي ذهبن معها يشاركنها الخوف والدموع.
لا تدري كيف عادت، لكنها أبدًا لم تعُد كما خرجت، عادت فاقدةً براءتها النازفة في محراب العمل، عادت ملوَّثةً بالخزى والعار، كذلك عاد الأطفال كلٌّ إلى منزله، ليروي ما حدث، حتى أصبح داخل كل بيت حكاية.
غادر الغريب القرية بأَسْرها كأنه فَص ملح وذاب، ذهب بلا عودة بعد أن باع المعمل لأحد أبناء القُرى المجاورة كما علِموا بعد ذلك، ذهب بجُرمه ومن وقتها لم يسمع عنه أحد.
منذُ الحادثة لم تذهب بهية إلى مدرستها، أصبح والدها ملازمًا لبيته خوفًا من عيون الناس التي ستلاحقه أينما ذهب، كذلك أمها لم تعُد تشارك النسوة حديث المصطبة أو الزيارات، أصرَّ والدها على تزويجها من ابن عمها بعد أن توسَّله ليستر عليه وعليها مذكِّرًا إيَّاه أنها شرفهما وشرف العائلة كلها، وحتى لا يكون مضطرًّا لقتلها، ليغسل شرفه بيده.
بين ليلةٍ وضُحاها أصبحت بهية علكةً تلوكها الألسنة، فهي المذنبة في أحاديث بعضهم، وآخرون يقولون إنها هي مَن أغوته بتدلُّلها عليه، بل إنَّ بعضهن أقسمن أنهن رأين بأم أعينهن انتفاخ بطنها.
ظلَّت بهية لأيامٍ طويلةٍ حديث المصاطب في أيام الجمع، فبعد أن كان حديثهم ينصبُّ على حبال الغسيل وما عليها من ملابس الرجال الداخلية كدليل على فحولة صاحب البيت وقضاء ليلة خميس مميزة، بينما عدم وجود غسيل على الحبال ليلة الخميس يعني بالنسبة لهم أنَّ الرجل فَقَد فحولته، وأنه وزوجته قضيا ليلةً تعيسة.
لكن -ومنذُ تلك الحادثة- أصبحت بهية الخبر الأبرز والأهم لتتصدَّر حديث المصاطب.
في صباحٍ ما، وبعد أن نام الجميع على ترديد الإشاعات في انتظار مواصلتها صباح اليوم التالي استيقظوا على صراخٍ وعويل، خيَّم الوجوم على القرية كلها.. قد ماتت بهية!
نادى درويش القرية المجذوب في جميع أنحاء القرية:
- ماتت بهية يا بلد، ماتت البراءة، ماتت بهية يا بلد، ماتت الطهارة، ماتت بهية يا بلد، ومعمل الطرشي ما زال باقيًا وشاهدًا.
في صمتٍ، وبعد أن جفَّت الدموع وتحجَّرت بمُقلتيها ماتت بهية، ماتت وبجوارها وجدوا الكثير من حبوب الغلال السامة وفحل بصل غير مكتمل النضوج.
تمت