وبنظرة أخيرة للوراء ابتسم ساخرًا بلا مُبالاة، لا يدري هل كانت تلك النظرة نظرة حُب وامتنان أم نظرة سخط وضيق؟ وتلك الابتسامة هل هي ابتسامة رضا أم تهكم وسخرية؟
نظر حوله حيثُ الفراغ فقط هو ما يبدو حقيقيًّا، وما عداه كان يبدو كديكور مُصطنَع لا ينتمي إلى المكان أو الزمان، حتى تلك البحيرة وماؤها الآسن كانت وكأنها بغير مكانها، وهذه الأشجار تبدو وكأنها أشجار للزينة قد صُنِعت من البلاستيك.
نظر إلى العصافير من فوق الشجر ما لهم يبدون أقرب إلى الدُّمى منهم إلى عصافير تنتمي للطبيعة ذات الشموخ؟
تُرى ما سبب نظرته السلبية؟ وهل هو شخص سوداوي بالفطرة قد سيطر عليه اليأس والقنوط فأصبح أسيرًا لهما؟ أم أنَّ ما حدث ويحدث وسيحدث هو ما جعله ذلك الشخص الغريب عنه حتى تحوَّل إلى ما أصبح عليه على ذلك الرصيف المحاذي لسكة القطار المتهالك، وحيثُ يصطفُّ المسافرون بانتظار القطار الوحيد المتجه غربًا، انزوى وحيدًا ينفث دخان سيجارته بنهمٍ شديد وكأنه يأكلها أكلًا وهو يتطلع إلى تلك الوجوه الشاحبة، والتي تفتقد حرفيًّا إلى الحياة.
حيثُ اللامبالاة تسيطر على الجميع، والجمود هو ما يكسو تلك العظام البارزة من تحت الجلد، وذلك العبوث الذي يبدو جليًّا وكأنه منحوت على ملامح الجميع، وكأنَّ ملامحهم نتاج رسَّام محترف اختزل الحزن والألم بتلك الوجوه، الجميع يتحركون بديناميكية غريبة وكأنهم ريبوتات تسير وفق كتالوج، وتتحرك عن بُعد بريموت كنترول.
تذكَّر مجيئه لأول مرة إلى هذه البلدة منذُ خمسة وستين عامًا؛ حيثُ كان يحلم بالأمان ورغد العيش، وحيثُ بدأت رحلته الأولى في البحث عن ذاته وعن الأمل المفقود والحُلم الموؤود.
ابتسم ابتسامةً ذات مغزى عندما تذكَّر أنَّ أول ما فقده بهذا اليوم كان حافظة نقوده، والتي كانت تحوي قروشًا قليلة، ولكنها كانت كفيلةً ليعيش كريمًا لفترة من الزمن؛ فتَقِيه الحاجة وذُل السؤال.
كان يهذي ويتحرك كالمجنون وهو يبحث عن حافظة نقوده المفقودة، عندما رآه ذلك الشيخ وهو يسأله بعفوية ووُد عمَّا يبحث عنه، وما إن أخبره أنه فقد نقوده حتى نظر إليه الرجل بحسرة قائلًا:
- لو كان يوسف هنا ما كان تجرَّأ عليك أحد وسرق نقودك.
رغم دهشتي وتعجبي وعدم فهمي لمقصده أو حتى معرفتي بذلك اليوسف إلا أنني أجبته بعفوية قائلًا:
- ولكن قد أكون قد فقدتها فضاعت ولم تُسرَق.
أثار الشيخ حيرتي أكثر عندما قال بثقة وحسم:
- حتى وإن ضاعت ولم تُسرَق منك فلو كان يوسف هنا لعادت إليك بعد دقائق معدودة حتى قبل أن تكتشف ضياعها.
كانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها هذا الاسم، ومن وقتها لم أسمع سواه.
تركه الشيخ مغادرًا وهو يتحسَّر بعد أن نصحه بالذهاب إلى يوسف؛ لينزل عنده ضيفًا، فهو وحده الذي يستطيع تحمُّله وضيافته بالشكل اللائق ودون أن يمل منه أو يتأفَّف.
تذكَّر كيف سار مذهولًا حتى وجد مقهى صغير يجلس عليه شابين، اقترب منهما ليسألهما: أين قد يجد يوسف؟
ابتسم الاثنان بنفس الوقت ممَّا أغضبه وأثار استياءه؛ ظنًّا منه أنهما يسخران منه، ولكنهما أجاباه بنفس الوقت وإجابة واحدة، وكلٌّ منهما يشير إلى نفسه قائلًا:
- أنا يوسف.
بعدها علِم أنَّ كلاهما يحمل نفس الاسم وهو يوسف.
فقال لهما مستوضحًا: نصحني أحد الشيوخ بالبحث عن يوسف؛ لأنزل عليه ضيفًا، فهل تعلمان يوسف المقصود؟
هنا بدَت الجدية على ملامح الشابين، وأحدهما يقول بأسى:
- صدقك الشيخ عندما دلَّك عليه، فيوسف له جميل برقبة والدي ما فتئ يتحدث عنه؛ لذلك أسماني يوسف تيمنًا باسمه بعد أن أنقذه من قُطَّاع الطرق وقضى عليهم.
هنا تدخَّل الشاب الآخر ليقول بحُب: وأبي كذلك حكى لي أنَّ يوسف هو مَن دفع تكاليف زواجه من أمي وتكفَّل بالمنزل ووفَّر عملًا كريمًا لأبي، فما كان من أبي إلا أن يسميني يوسف من شدة حبه له وعرفانًا بجميله.
ليتنا حقًّا نعلم مكانه لنشكره ونرد له الجميل، فقد ورثنا حبه بقلوبنا؛ لكرمه مع أهالينا.
غادرهما الرجل وقد ازدادت حيرته أكثر من ذي قبل، فغادرهم متعجبًا وهو يسير على غير هدى.
وما إن سار قليلًا مبتعدًا وبداخله إصرار غريب للبحث عن يوسف ولقائه حتى وجد جمعًا غفيرًا من الناس يلتفون حول امرأة تبكي بحرقة، يلتف من حولها أطفالها الصغار وبعض قطع الأثاث البالية المُلقاة بجوارها.
كانت المرأة تنتحب وهي تقول وتُردِّد: لو كان يوسف هنا ما تشردت أنا وأطفالي،
ما كان يوسف ليسمح أبدًا بأن أصبح شريدةً بلا مأوى.
استطردت قائلة: هو مَن أنقذ أسرتي وأقام لهم منزلًا يأويهم قبل أن تغرقه السيول.
ظلت المرأة تصرخ وتنادي: أين أنت يا يوسف؟ أين أنت يا يوسف؟
كانت تطالع وجوه الناس المُحلِّقين من حولها، عسى يغيثها أحدهم أو يمدُّ لها يده بالمساعدة دون جدوى.
كان الناس من حولها ينظرون ولا أحد منهم يحرك ساكنًا.
تحسَّس جيبه ليخرج لها بعض المال؛ فتذكَّر أنه مثلها أو أشد بؤسًا منها، فهو أيضًا بلا مال أو مأوى.
تذكَّر كيف مرَّت عليه السنوات تلو السنوات وهو يتمنى أن يرى هذا اليوسف أو يعرف أحدًا قد يصله به أو حتى يدله على خيط يسير وراءه.
يوسف، آه يا يوسف.. أين أنت؟ لماذا أسمع عنك فقط دون أن أجدك أو أشعر بك؟
كان دومًا يسمع عنه ما يشبه المعجزات والأساطير؛ فيوسف هو مَن كان يحكم بالعدل بين المتخاصمين؛ فلا يجامل أو يظلم.
يوسف هو مَن كان يتولى الأرامل والأيتام فيقيهم ذُل السؤال.
ويوسف هو مَن كان يواجه اللصوص والفَسَدة بقوة؛ فيعيد حقوق العباد منهم ويلقي بهم بالسجون ليصبحوا عِبرةً لغيرهم.
يوسف هو مَن كان ينصر المرأة الضعيفة والمعيلة؛ فيدفع عنها مصاريف المعيشة دون حتى أن تطلبها.
هو مَن قام بتعليم الفقراء، وهو مَن كان يبني المساكن لهم، وهو مَن أقام المصانع ليعمل بها أبناؤهم دون واسطة أو محسوبية.
يوسف هو مَن كان يشقُّ الترع والمصارف لتروي الأراضي الزراعية، وعندما يتم حصاد المحاصيل كان يسوقها لهم ويببعها حتى عمَّ الرخاء.
كيف فعلت كل ذلك يا يوسف حتى أحبَّكَ الجميع؟
هنا زال تعجبه من أنَّ معظم أهل البلدة كانوا يحملون اسم يوسف، فلم يكن هناك تمييز بين يوسف الأسمر ويوسف الأبيض، وبين يوسف الطويل ويوسف القصير، كان الجميع متساوين.
يوسف كان يجمع ولا يُفرِّق، كان يدعو للحب وينبذ العُنف والكراهية، كان المظلة التي تجمع الجميع بحُب وعدالة .
كان يحمل قلبًا حنونًا لا يُفرِّق بين الابنة وأبيها، لا يقتل بلا سبب، لا يظلم لأي سبب.
سنوات وسنوات وهو يسمع عن يوسف دون أن يراه أو يشاهده بغياب يوسف، تبدَّلت الأحوال وتغيَّرت الوجوه، وانتشرت الأسماء الغريبة بالبلدة.
تصحَّرت الأراضي ومن قبلها القلوب، تاهت العدالة ومن قبلها الأرواح؛ فتيبَّست العقول.
تذكَّر كيف دبَّ اليأس إلى نفسه؛ فقرر أن يغادر دون رجعة، فهو يسمع فقط عن يوسف دون أن يجده أو يصل إليه .
عاد من شروده الطويل على صوت صافرة القطار القادم من جهة الشرق متوجهًا إلى الغرب.
همَّ بالقيام على عجلة عندما رأى شيخ كبير يأتي من بعد متوجِّهًا نحوه، لم يتبيَّن ملامحه؛ بسبب انحناءة ظهره وحركته البطيئة.
اقترب منه؛ ليساعده على المسير.
فتبسم الرجل بصوت واهن وهو يقول: هل انتهت رحلتك يا ولدي؟
نظر له متعجبًا وهو يقول: عن أي رحلة تتحدث يا شيخ؟
الشيخ متسائلًا ودون أن يلتفت إليه أو لسؤاله: وهل وجدت حافظة نقودك؟
نظر له مليًّا وهو يحاول العودة للوراء مُتذكِّرًا وهو يقول بتنهيدة طويلة:
- ألست أنت أول شخص التقيته هنا منذُ سنوات طويلة؟
- نعم، كان ذلك على مشارف البلدة.
أردف قائلًا: كيف يُعقَل هذا؟ وأي صدفة تكمن بهذا فتكون أنت أول شخص التقيه عندما أتيت وآخر مَن أراه وأنا أغادر؟!
تبسَّم الشيخ قائلًا: ليس هذا المهم حقًّا، ولكن أخبرني هل التقيت بيوسف؟ هل بحثت عن يوسف ووجدته؟
ردَّ عليه قائلًا بحزن وأسى: بحثت عنه كثيرًا ولم أجده رغم أنني ببعض الأوقات كنت أشعر أنني على بُعد خطوات منه.
كنت أشعر به من حولي دون أن ألمسه أو أحظى بحبه وعطائه.
أردف قائلًا وهو ينظر نحو الشيخ آسفًا ليتنهد قائلًا: للأسف سوف أغادر دون أن ألتقيه أو حتى أعثر على قبره.
تبسَّم الشيخ وهو يقول: لا تكُفَّ عن البحث عنه، لا تيأس يا ولدي، واستمِر بالبحث عنه فجر كل يوم ومع إشراقة كل صباح وستجده، لا تبحث عن قبر يوسف يا ولدي، إنما ابحث عن يوسف.
يوسف باقٍ كبقاء الأرض والشمس والقمر، وذات يوم سيجري بالخير جريان النيل بالصحراء.
نظرت إليه متعجبًا ومتسائلًا بنفس الوقت: كيف ذلك؟ ولمَ هذه الثقة؟ ومَن أنت؟ وكيف عمَّرت كل هذا الوقت ولم تمُت؟
الشيخ متبسمًا: لا يهم يا ولدي، ربما أكون التاريخ أو التجربة، ويمكنك أن تعتبرني فكرة، والأفكار لا تموت.
فقط لا تتخلَّ عن يوسف؛ فهو ينتظرك وينتظر مَن سيأتي بعدك.
ابدأ من داخلك أنت، فأنت تحمل بعضًا منه، واعلم أنَّ يوسف لا يموت ولا يفنى حتى قيام الساعة، وسيظل داخلنا جيلًا بعد جيل نتوارث حبه حتى وإن قسى علينا ببعض الأوقات.
غادر الشيخ يحمل عصاه ويتوكأ عليها وهو يُردِّد بصوتٍ واهن وضعيف، ولكنه ساطع كالشمس: أين أنت يا يوسف؟ أين أنت يا يوسف؟ أين أنت يا يوسف؟
تمت
ياسر محمود سلمي
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
د. راقية جلال محمد الدويك
د. سمر ابراهيم ابراهيم السيد
دينا سعيد عاصم
رهام يوسف معلا
ياره السيد محمود محمد الطنطاوي
فاطمة محمد البسريني
محمد محمد جاد محسن
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
د. عبد الوهاب المتولي بدر
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 




































