يقولون إن للقمر جانبًا مظلمًا لا تراه العيون دائمًا.
هكذا أنا، روحان في جسدٍ واحد.
روحٌ مرئية تقبع في أتون الواقع، تتأمل الوجوه الشاحبة والأرواح المنهكة، تتماهى مع الإيقاع اليومي الرتيب، وتساير التعب بصمتٍ طويل.
وروحٌ أخرى شفافة، كأنها اقتُطعت من سديمٍ بعيد، لا تشبه هذا العالم ولا تطمئن إليه.
روحٌ تغادرني كل ليلة، إلى حيث يصبح الضجيج طقسًا داخليًا يمارسه عقلي بانتظام، وحيث تتكاثف الأسئلة وعلامات الاستفهام أكثر مما تحتمله الإجابات.
ومن نافذتي المظلمة، ومن خلف ستائرها الثقيلة، يتسلل ذلك الضوء الشارد، يلامس عتمة اليأس، ويعلن على استحياء رحيل الظلام وولادة فجرٍ جديد.
ولا أدري حقًا:
هل كانت أحلامي مستحيلة؟
هل تجاوزت حدّ الحلم؟
أم أن العيش بهدوءٍ وسلام صار حلمًا صعب المنال؟
ما زلت أشعر بذلك الإحساس القديم الذي رافقني منذ الطفولة، أنني أنتمي إلى زمنٍ غير زمني، وأن روحي وُلدت في توقيتٍ خاطئ. لم أعد أفهم من حولي، ولا أفهم نفسي كما ينبغي. ربما الخلل بي أنا، وربما كنت أحلم في زمنٍ تُوأد فيه الأحلام قبل أن ترى النور.
ما يدور في عقلي بات عصيًّا على الفهم، أما ما يسكن قلبي فلهو أعقد وأثقل. أحيانًا أشعر أنني أظلم من حولي حين أطلب منهم أن يفهموني أو أن يشعروا بما أشعر به. فما ذنبهم؟ وهذا أمرٌ يفوق طاقتهم على الاستيعاب، وليس بأيديهم.
كثيرًا ما يراودني الإحساس بأن العزلة، وربما الغياب، هما الدواء الوحيد لروحي المتعبة، حتى وإن كان الثمن هو الرحيل وفقدان كل شيء.
ومع ذلك، أظل تلك الروح التي تطارد الفراشات خلف شتلات الياسمين، وتُسابق عصافير الصباح نحو الشمس المشرقة.
سيبقى إيماني راسخًا بأن من قلب المحنة تولد المنحة، ومن رحم الألم يولد الأمل.
وإن كان الموت قدرًا لا مهرب منه،
فإن الحرية… حياة.






































