منذ فترة من الزمن .
ربما ستكون هذه أخر كلمات سأكتبها بمفكرتي ولا أدري حقا هل ستصلكم أم ستدفن هنا وتبقى سرا الى الأبد ،
نحن الأن فى الثامن والعشرون من يناير بداية العام الجديد .
الطقس بارد والسماء ملبده بالغيوم وتلك السحب تلقي ما بجوفها لتحيل تلك الرمال إلى مستنقعات موحلة .
لا نكاد نشعر بأطرافنا تكاد تتجمد من الصقيع حتى عندما نحرك أصابع أيدينا أو أقدامنا لا نشعر بأدنى شعور فقط تيبس المفاصل وزمهرير يسري بالأوصال صفير الرياح من كل صوب هو الصوت الوحيد الذي نسمعه هنا بلا توقف وكأنه لحن يعاد تكراره كلما أنتهى
فقدنا المؤن أو أغلب ما كان معنا بعضنا جرحى بإصابات بليغه وهناك من ينازع سكرات الموت وفقدنا الكثير من أصدقاؤنا فإما برصاص العدو أو بقسوة الشتاء وندرة الطعام
نحن الكتيبة الثالثه مشاه أخر من تبقى من اللواء التاسع بعد هزيمته أمام قوات العدو وبعد إنسحاب أغلب القاده أو وقوعهم بالأسر وهم ينسحبون
عندما علمنا بالإنسحاب إجتمعنا وقررنا أن نقاوم حتى أخر رصاصه فنموت على تلك الأرض أو يأتينا المدد ونحن نقاوم
أنا الجندي رقم 219 وربما ما أكتبه الأن هو ما سيتبقى لكم منا فإن متنا أو إنتصرنا إعلموا أننا لم نفرط فى ذرة تراب واحده وأننا دفعنا أرواحنا ثمنا لهذا التراب وأعلموا أن دماؤنا كانت ثمنا للحفاظ عليه وما حافظنا عليه بالدماء لا تفرطوا فيه بالذهب ،،
اليوم التاسع والعشرون
تناقص عددنا كثيرا أصبحنا ثلاثة عشر من كتيبه قوامها مائة وثلاثون عندما أتى الأمر بالإنسحاب إستجاب له النصف تقريبا ولا أدرى هل نجحوا بالعوده للخطوط الأمنه أم قتلوا أو تم أسرهم .
من تبقى منا كان يقاتل بصدره
وسلاحه بيده بلا طعام كاف أو ماء فقط عهد قطعناه ويقين نؤمن به بأن الموت بأرض المعركه أشرف لنا من الحياة بذل الإنسحاب والهزيمة ،
بعض من كانوا يموتون بين أيدينا كانوا يبتسمون وهم يقولون لنا سنوفر لكم بعض الطعام والماء بموتنا فلا تتراجعوا ولا تستسلموا ،
اليوم هو الثلاثون من يناير
نحن بتلك الحفر التي نحتمي بها من هجمات العدو
نسمع أصوات طائرات إستطلاع العدو فوق رؤوسنا يأتون من ثم يذهبون ليعودوا مره أخرى
وبعدها يطلقون الرصاص بغزاره
كنا نبادلهم إطلاق النار بغزاره ومن كل الاتجاهات فيظنوا أن أعدادنا كبيره وأننا نملك الكثير من السلاح فيتراجعوا ،
اليوم الواحد والثلاثون من يناير
هذا يوم لا ينسى ولا يمحى من الذاكره يوم يجب أن يسجلة التاريخ ويبقى للأجيال القادمة بهذا اليوم إستطاع
الجندي رقم ١١٧ وببطولة منقطعة النظير أن يسقط طائرة مقاتلة من طراز ڤانتوم بقذيفة أر بي جي أصابت ذيل الطائره فأخذت تدور حول نفسها بكل الاتجاهات قبل أن تسقط بجوار إحدى الدشم الخاصه بنا ومقتل كل من كان بداخلها برصاصاتنا ،
لحسن الحظ وجدنا داخل الطائرة الكثير من السلاح والذخيرة وأيضا الطعام والماء ،
اليوم هو الأول من فبراير
بهذا اليوم فقدنا نصفنا تقريبا
ستة طائرات على الأقل بدأت بإلقاء القنابل من على إرتفاع قريب من الحفر
وإطلاق النار بغزاره وربما كان هذا ردا على إسقاط الطائرة ومقتل جنودهم ،
بهذا اليوم كان الموت قريبا مني للغاية كنت أشم رائحتة تملأ حواسي وكنت أشعر به يرافقني مع أنفاسي كلما تنفست .
ولولا صديقي رقم ١٠٩ لكنت بعداد المفقودين فهو ما أن رأي القنبله تسقط من إرتفاع منخفض للغاية حتى التقطها بيده مغادرا الحفره بإتجاه الطائره فانفجرت به وكادت تسقط الطائره لولا مغادرتها مع السرب محلقة لأقصى إرتفاع ،
اليوم الثاني من فبراير
نجح الجندي رقم ١٣ من إصلاح اللاسلكي بإستخدام بعض المعدات من الطائره التى أسقطناها وتواصل مع قائد وحدتنا الذي تراجع للخطوط الخلفيه مع من نفذوا الإنسحاب
أخبرناهم أننا نبلي حسنا وما زال الموقع بحوذتنا ونحتاج فقط للإمدادات لنؤمن هذا الموقع ونصد هجمات العدو ،
كانت إجابته مخيبه للأمال لن نستطيع الوصول إليكم قبل خمسة أيام وأنهى حديثه قائلا لقد خالفتم الأوامر العسكريه
ولم تنفذوا الانسحاب التكتيكي وأن مواجهة الأمر تقع علينا ،
اليوم الثالث من فبراير
لا طائرات إستطلاع أو هجوم كان الصمت هو من يخيم علينا
أشعلنا بعض النيران بإحدى الحفر وجلسنا نستشعر بعض الدفء ونرسل دعواتنا للسماء
ونتناول بعض قطع البسكوت المبلل بماء المطر وحبات الرمل ،
أصبحنا أربعة كل ما تبقى منا ،
أنا الجندي ٢١٩ والجندي ٣٧ والجندي ٥٤ والجندي ٧٨ عندما نظرت الى وجوههم وكأنني أراهم للمرة الأولى
كدت ألا أعرفهم شحوب الوجه وشعر اللحية الكثيف والشوارب التي تغطي نصف الشفه العلوية وذلك الهزال الذي أصابهم غير من ملامحهم كثيرا ولكن كل هذا لم ينال من عزيمتنا أبدا .
الجندى ٧٨ متحدثا بثقةعدم هجومهم اليوم من الجو مؤشر لتخطيطهم للإستيلاء على الموقع بالهجوم المباشر ربما بالمشاه والدبابات .
إتفق معه بذلك الجندى ٣٧ ،
بينما قال الجندى ٥٤ وما الفارق أن يأتوا بالطائرات أو الدبابات بكل الأحوال سيجدونا بإنتظارهم ولن نذهب بعيدا ، وأخذ يصفر لحنا بشفتية وكأنه يعزف على ناي حزين .
إبتسمت لكلماته وراقني ذلك اللحن والذي حرك بي حنينا خفيا لمن فارقتهم فأخرجت صورة أسرتي والتي تجمعني بهم وكنت قد كتبت عليها بعض العبارات من الخلف للذكرى ،
وكل من المتواجدين أخرج غرض ما من جيبه يشم فيه رائحة أحباؤه ،
تعاهدنا إن قدر لأحدنا إدراك المدد أو النجاه والعودة للوطن أن يحمل أغراضنا لأسرنا ،
اليوم الرابع من فبراير
لأول مره نشعر بدفء الشمس كان يوما أشبه بالربيع منه بيوم من أيام الشتاء القاسية ،
وبينما كان يجلس بالقرب مني الجندي ٥٤ سالت دموعه غزيرة
سألته هل هو الخوف من إنتظار الموت ما يبكيك ?
فأجاب أبدا لا يخيفني الموت ولا يؤلمني بل ربما أجده راحة لي مقارنة بما نقاسية هنا ،
ولكن ما يؤلمني هو ألم من أحب وإنتظاره لغائب قد لا يعود أبدا هونت عليه مربتا على كتفه . أعقب كلماته بتنهيدة عميقة من ثم قام بإخراج صوره صغيره من جيبه وهو يقبلها بعشق ويحتضنها بعينية قبل أن يريني إياها دون أن يبعد بصره عنها وكأنه يخشى أن تكون نظرتة الأخيرة .
وما أن وقعت عينايا عليها حتى شهقت قائلا يا لها من ملاك تشبه القمر برقتها وبريق عينيها هل هى زوجتك أو ربما خطيبتك ،
قال بل هى أكثر من هذا إنها توأم الروح ونبض القلب ونور العين ولا يربطني بالحياة سوى تلك الأنفاس التي تتردد برئتيها،
قلت له إن كان الأمر كذلك لماذا لم تتراجع مع من تراجعوا لتجتمع بمن تحب وتهوى ?
نظر لى قائلا وكيف أنظر لعينيها وأرى أمامي جندي مهزوم قد فر من المواجهة وهى من تعودت أن تراني أمنها وأمانها ،
لا يا صديقي لن أخون وطني فيها حتى وإن كنت أعشقها ، إبتسمت دون رد فلم أجد ما قد يعبر عن مشاعري بهذه اللحظة .
من كان يسمع حديثنا لقال عنا أننا مجانين لا شك بذلك
فهذا الحديث لا يتناسب أبدا مع ما ينتظرنا أو بالآحرى ما ننتظره فربما الموت فقط هو ما نشم رائحتة منذ أتينا إلى هنا وإحتمالات الموت هى الأقرب ولكن كيف ومتى فهذا ما نجهلة ،
وصدق ما توقعناه بالفعل
رتل من الدبابات يتقدم ويحاصر الموقع من كل الاتجاهات وكأنما يعلم أين وكيف سيقاتل ،
بادلناهم إطلاق النيران بكثافه
ولكنهم يتقدمون بإتجاه الدشم التي نحتمي بها وهم يختبئون داخل الدبابات كان عددهم ستة دبابات ونحن أربعة أفراد ،
بكل المقاييس العسكرية نحن إنتحاريون بإنتظار الموت ،
ولكن وبحركه مباغته غادر الجندي ٣٧ دشمته والتف من خلف إحدى الدبابات قبل أن يعتليها ويفتح الفوهه العلوية ويلقي بداخلها قنبلتين بعد أن قام بنزع الفتيييلين ويقفز على الأرض متراجعا للخلف ،
أخذت الدبابه تتقهقر وتدور حول نفسها لتنفجر بعد ثواني معدوده وتتحول الى ركام ،
عندما حاول الجندي ٣٧ العوده الى حيث دشمته كان قد فات الآوان لذلك فإحدى الدبابات تطارده بإستماته لتدهسه تحتها ،
وهنا حدث ما لم يكن بالحسبان وما يقف أمامه العقل كثيرا غير مصدق ومسجلا أروع أيات الشجاعة والبطولة
فأثناء تقدم الدبابه وهى تطارد الجندى ٣٧ وتمطره بوابل من النيران إنشقت الأرض عن الجندي ٧٨ وهو يتقدم بإتجاه الدبابه حاملا قنبلتين منزوعتين الفتيل وما أن داسته الدبابه حتى تحول الجميع هو والدبابة ومن بداخلها إلى أشلاء ،
أصبحنا ثلاثة جنود مقابل أربعة دبابات ،
ولكن ما فعله الجندي ٧٨ كان له أكبر الأثر فى قلب موازيين المعركة منذ البداية
رعبهم وخوفهم منا وحماسنا ،
حملت أنا الأر بي جي وصوبته بدقه نحو إحدى الدبابات مما أصابها بعطب كبير فتوقفت
وهنا أمطرناها بالقذائف والنيران حتى إشتعلت تماما وخرجت من المعركه ،
ومره أخرى حاول الجندى ٣٧ تكرار فعلته والتف حول احدى الدبابات ولكنه عندما فتح الفوهه جذبه الجنود داخلها فانفجرت بالجميع وتحولت إلى كتلة من اللهب ،
الان إثنان مقابل إثنان ،
نظرت الى الجندى ٥٤ مبتسما وانا أشير الى حافظتى والتى بها متعلقاتي بينما أخرج هو صورة حبيبته ليقبلها ويضعها بجيبه
آشرت له بالعد تنازليا حتى الرقم واحد وانطلقنا سويا وكل منا يحمل آر بي جي وشريط الذخيرة فوق كتفة ،
كنا نطلق الصيحات مع الرصاص بلا توقف أو هوادة ،
عشرة دقائق أو أكثر مرت ونحن على هذا الحال وعندما توقفنا عم الصمت كامل الأنحاء وكأنه لم تكن حرب بهذا الشكل ،
دمرنا أنا وصديقي الدبابتين ومات كل من بداخلهم ،
نظرت الى صديقي فوجدته يقع أرضا والدماء تنفجر من فوق ركبته بغزاره ،
عندما إقتربت منه كان يتألم بشده وكانت نصف الرجل ممزقة ومهترئة من فوق الركبة وتحت الفخدوبينما أساعده على النهوض أشار إلى جيبه حيث الصوره محاولا إخراجها
ومن ثم غاب عن الوعي
ليحل الظلام وأنا وحيدا ،
اليوم الخامس من فبراير
كنت قد ضمدت جراح صديقي وان كنت أشك أن يبقى على قيد الحياه وان نجح بذلك فلابد وأن يتم بتر قدمه من فوق الركبه ،
وها أنا كما أخبرتكم أكتب هذه الكلمات ولا أدري هل ستصلكم بيوم ما أم ستبقى سرا للأبد وتموت معنا ،
الأن سأضع مفكرتي بالحافظه
سأحمل سلاحي منتظرا أن يأتي المدد من جنودنا أو أحافظ على عهدي مع هذه الأرض وأُدفن فيها إلى الأبد ، بعد ذلك بعشرون عام
رجل تجاوز الخمسون من العمر أمام شاهد أحد القبور والدموع تنساب من عينيه بينما تقف زوجتة وأولاده بفخر وإجلال وتقدير وهو يقول
لم أنساك يوما واحدا يا صديقي ولم ينساك التاريخ فلولا صمودك معنا ما انتصرت قواتنا بعد أن أجبرنا العدو على التقهقر وأوقفناه لحين استرداد قواتنا بقية الألوية والكتائب ،
أخرج صوره من جيبه وهو يقول لقد طبعت منها الكثير ووزعتها على الصحف ،
وضع باقة الزهور على شاهد القبر قبل أن يتوجه إلى السيارة حيث زوجته وأبناؤه ،
تأمل زوجته كثيرا وقبل أن ينطق بحرف واحد بادرته قائله أعلم أنه لولا هذا البطل ما عدت لى وما أجتمع شملنا ،
سأظل دوما شاكرة له صنيعة وحفاظه على حياتك بينما كنت فاقدا للوعي بقدم شبة مبتورة
إبتسم إبتسامه واسعه وهو ينظر إلى عينيها بينما يلوح بالتحية العسكرية إلى شاهد القبر مودعا تلك الرخامة الحمراء حيث تم حفر الإسم وتاريخ الوفاة بالخامس من فبراير وقد كُتب بكل فخر الجندي رقم ٢١٩ مشاة
ساعدته إبنته برفع ساقه الصناعية ليدخل الى السيارة
وهو يتأمل تلك القطعه المعدنية والتي نقش عليها إسمه واسم سلاحه
الجندي رقم 54 الناجي الوحيد من الكتيبة الثالثة مشاه...
أيمن موسى