أنا إنسان دمّرته الحياة ....
جملة قالها "هيثم"، ثم طأطأ رأسه نحو الأرض وصمت طويلًا .
ظننته سيتحدث عمّا حدث، لكنه رفض الكلام وبكى كثيرًا.
قمتُ من مكتبي، ناولتُه منديلًا، وطلبتُ له عصير المانجو وكوبًا من الماء.
نظر إليّ بخجل وقال:
... -حضرتك بتحترمني مع إني كذّاب ومنافق ومدمن
ابتسمتُ ورددت بهدوء:
-أنا أحترمك لأنك جئت بنفسك لتخرج من تلك الهاوية. وتأكد أن باب التوبة مفتوح في كل وقت.
رفع نظره نحوي وقال:
. -أنا هيثم، مهندس شاب، أبلغ من العمر ثلاثةً وثلاثين عامًا، متزوج ولديّ طفلان: شاهندا وعلي
ثم تابع:
-بدأت حكايتي بعد أن منَّ الله عليَّ بمال ورثته عن والدي –رحمه الله–ففكرتُ في فتح شركة صغيرة للإلكترونيات، ومع كرم الله عليّ، تنامت تجارتي وثروتي أيضًا.
كل شيء كان يسير كما حلمت، بل أكثر مما حلمت، حتى تعرّفت عبر وسائل التواصل الاجتماعي على إعلان بعنوان "جرّب حظك"، وهو برنامج للربح السريع يعتمد على المقامرة بالمال.
جربت بمبالغ بسيطة وربحت، فطمعْتُ في المزيد... وربحت أيضًا.
لكن الطمع أعماني، فبدأت أُقامر بمبالغ أكبر؛ مرة أكسب ومرات أخسروجاء يوم اكتشفت فيه أن ديوني تراكمت، ولم أجد حلًّا سوى أن أبيع كل شيء... حتى الشركة!
لعبت القمار وخسرت كل شيء......
قابلتُ أصدقاء قدامى كانوا يعملون في بعض الدول الخليجية، وطلبوا مشاركتي في شركتي لأنهم لم يعلموا أني بعتها.
وافقت، وأخذت المال، وقامرت به... أربع مرات أكسب، ثم أُضاعف الرهان، ثم أخسر كل شيء.
نعم، خسرت كل شيء.......
بعت ما أملك، وخسرت حياتي من أجل لعبة مقامرة... حتى زوجتي تركتني وأخذت شقتي وهربت.
قررت أن أختفي وأبدأ من جديد في مكان لا يعرفني فيه أحد.
عملت بوّابًا في عمارة، أكنس السلالم وأمسحها، وأجمع الإيجارات.
ثم رفع رأسه نحوي وسألني بمرارة:
-هل تظن يا دكتور أني تغيّرت؟!
لا... بالعكس. استفحل إدماني، فقامرت بمال مالك العمارة وهربت. لكنه أبلغ عني، وقُبض عليّ، ولولا زوجتي وإخوتي، لبقيت خلف القضبان أحاكم على إدماني للطمع والمقامرة.
ساد صمت ثقيل، ثم جلست أمامه، أنظر في عينيه وقلت:
. -كلنا نخطئ، وكلنا نتعلم من أخطائنا. لعنة الإدمان هي نفسها لعنة الطمع
قلت له :
-الحل بسيط يا هيثم نحاول تعديل سلوكنا، نغيّر الأشياء التي تذكرنا بالإدمان، والتي تسحبنا إلى قاع الهاوية.
تكررت الجلسات بيننا ست مرات على مدار شهرين، وفي كل مرة كنت أتوقع احتمال الانتكاسة... وفعلاً كانت تحدث.
لكنني كنت أطمئنه ألا يخاف؛ فكل انتكاسة تحمل درسًا جديدًا نتعلمه قبل الانهيار.
إلى أن جاء يوم استيقظت فيه لأجد رسالة منه علي الواتس تقول:
-دكتور إحسان أعتذر عن حضور الجلسات إلى الأبد...
لقد قررت الهجرة بدلًا من الانتحار، فلا مكان لي هنا.
زوجتي وأولادي لا يحتاجون وجودي، فأنا عبء عليهم، وإخوتي ابتعدوا عني كأني مرض خبيث.
لا أجد بجانبي إلا صوتك الذي يقول:
“لا تيأس يا هيثم، تأكد أننا جميعًا مبتلون... تعلم من أخطائك وحاول أن تتغير.”
لقد تركت خلفي، يا دكتور، الكثير من الألم والديون، ولم يكن أمامي إلا طريقان:
إما الهجرة أو الانتحار.....
ولأني لا أجرؤ على مقابلة الله وأنا منتحر، قررت أن أسعى إلى مكان آخر.
علّي أكون إنسانًا محترمًا مرة أخرى، بدلًا من أن أسبب لأسرتي العار والانكسار.
شكرًا لك على كل شيء، وأتمنى أن أراك يومًا ما –إن قدّر الله عودتي– في أحسن حال.
سامحني على كل ما جلبته لمن حولي من أذى وخسارة...
وتذكرني دائمًا..
أنا إنسان خسر حياته كلها بسبب جملة “جرّب حظك”... وما زلت أُعافر لأستردها.





































