" أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة وأخي الغدر وأختي المسكنة وعمي الضر وخالي الذل وابني الفقير وابنتي الحاجة وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب "
عبد الرحمن الكواكبي
نواح الحلزون
تورّم وجدانها المطمور بحمم اللظى والأسى من قساوة الأيام عليها وعلى ولدها "رفيق" من بعد وفاة زوجها، فما لبث أن تيبّس عضم "رفيق" حتّى تزوّجت أمّه برجلٍ ثانٍ؛ رجلٌ ثريٍّ المال ، متبحبح السّعة، رفيع السّمعة، انتشلها من حفر الفقر والعناء الدّابغ بحالها العويص ، وبعد مدّة رغُد عيشها و ترفّهت حياتها واستنشقت مهجتها هواء جديدا نقيا بعد الخناق والشقاق التي كانت غارقة فيه وأنجبت منه طفلها الثاني "هارون" ، عاش "رفيق" مع زوج أمه وأخيه الصّغير "هارون" في رخاء وهنية حتى بلغ أشده وتزوج وأنجب طفلين ، كانت حرفة "رفيق" وولعه الشديد يكمن في تربية الحلزون؛ فلقد تخرّج من الثانوية وانتُسب لكلية الزراعة ليكمل حلمه ويُصبح مستثمر مرموق في مشاريع تربية الحلزون ، بينما "هارون" فقد كان عيشه عيشٌ لبابٌ تائه بين الدول والسّفريات ؛ فلم يتزوج قط ولم يكمل دراسته بعد أن ورث من أبيه كلّ ثروته الهائلة وممتلكاته الطائلة وانغمس في تجارة الالكترونيات والمواد الكهربائية و بهذا الغدق الوافر افتتح شركات ضخمة في دول أوروبية و دول الشرق الأوسط.
قُبيل وفاة أمهما كانت وصيتها الوحيدة تآزر الأخوين لبعضهما وإبقاء العلاقة ملتحمة فيما بينهما وأن لا يتفارقا مهما كانت الظروف والمسافات ويظلا كليهما في تكافل وتضامن قوي بينهما خصوصا أنّ "رفيق" معسور الوضع خلاف أخيه "هارون" المتنعّم بالرّفاغة.
مضت الأشهر كومضة عين وقرر حينها "هارون" ببيع قطعة أرض قد ورثها من المرحوم والده واقعة في منطقة مسقط رأسه بقرية أجداده ، كانت الأرض مندوحة وشاسعة ، خصبة التربة يكثر فيها العشب والكلأ والعطر؛ فنسائمها عليلة تُداعب الأنفس، كالفردوس الهارب من لوحة أبدع الخالق رسمها!
لم ينفك "رفيق" من التقاط أنفاسه المضطربة شوقا لملاقاة أخيه ليطلب منه بيعه قطعة الأرض بدلا من شخص غريب يفتكّه منها، فحزم أمره ورصّ عزمه وانطلق إلى مكتب أخيه الواقع بالعاصمة بعد أن حدّد موعدا معه وتوكّل على الله :
- مرحبا بك يا "رفيق"
- "هارون" اشتقت اليك يا أخي
- كيف حالك وحال زوجتك وأولادك
- كلهم بخير والحمد لله ، وأنت متى عدت من ألمانيا ؟
- يوم أمس ، لقد قدمت في عجالة حتى أتمّم إجراءات بيع قطعة الأرض وأعود إلى دياري
- حسنا ، وهذا ما جئتك من أجله
- ماذا تقصد؟
- في الحقيقة ؛ أريد شراء هذه الأرض
- ولكن ، اعذرني يا "رفيق" ثمنها باهظٌ وأنت لا يمكنك ...
- لا تقلق ، سأدفع لك المبلغ الذي تريده .. كم ثمنها ؟
- في الواقع أنا قررت بيعها بمائة مليون دينار
- وأنا موافق ؛ سأدفع لك ما تريده لكن سأتدلّل عليك بأمر واحد
- ما هو؟
- سأدفع لك الآن خمسون مليون والباقي سأدفعه لك بعد مضي عشرة أشهر
- لا مشكلة ، نحن اخوة ولا نختلف على هذه الجزئيات ، ولكن ما حاجتك بها؟ أراك متحمّس لشرائها
- أريد أن أكبّر مشروعي في تربية الحلزون ؛ فالعلب البلاستيكية التي أستعين بها لتربية الحلزون فوق سطح منزلي لم تعد مجدية بالنسبة لي، أحتاج إلى مساحة زراعية كبيرة حتى أفجّر طاقاتي المكنونة وأصدّر محصولي للخارج وأوسّع استثماري وبذلك سأتمم لك القسط الباقي
قرقف "هارون" من شدة الضحك وأردف قائلا :
- الحلزون ! أ ما زلت مهووس بالحلزون !
- الحلزون هو حياتي فيه رزقي وقوتي
- حسنا ، هنيئا لك قطعة الأرض
عاد "رفيق" لمنزله والبهجة تغلف أوصاله المتأججة بالفرح والنّصرة ، وشرع في إجراءات رهن منزله للمصرف وبيع سيارته والمجوهرات التي تملكها زوجته إنصافا ودعما منها لزوجها، وبعد فترة حصُل "رفيق" على المبلغ الذي سيسدّد به قسطه الأوّلي لأخيه "هارون" ليستلم بعدها قطعة الأرض؛ والدنيا وما فيها لا تتسع لغبطته الجامحة، باشر "رفيق" بشغف وحبّ تكريس حلمه على أرض الأحلام وهيّأ بيوت مكيّفة بأحدث التصاميم وجمع جحافل غفيرة من الحلزون الصغيرة وقام بتغذيتها وتسمينها واستخدم ألواح خشبية ركّبها بشكل مائل لتحافظ على الرطوبة والبرودة التي يحتاجها الحلزون ؛ حتى يتسنّى له التعلق والتخفي في باطنها من أشعة الشمس اللافحة في وضع النهار وسارت الأمور في أفضل حُلّة ؛ في غضون تلك الفترة بعدما ازدهر المشروع وعشعش الحلزون جذوره بتلك الأرض المباركة وأصبح المنتوج ملفتٌ للأنظار ، لمح "محسن" جار "هارون" في المنطقة الزراعية مالم يسرّه ويطمئنه .. فالشيخ "محسن" يملك مزرعةً صغيرة حذو الأرض التي باعها "هارون" لأخيه "رفيق"، عقب يومين اتصل بجاره "هارون" في الحال وطلب رؤيته فورا :
- أهلا بجاري الشيخ "محسن"
- جاري ! لو كنت جارك لما استهنت بي عندما قرّرت بيع أرضك
- حاشا لله أن أستهين بك أو أصغّر من شأنك ولكن ما علاقة هذا ببيع الأرض التي أملكها ؟
- كيف ما علاقة ذلك ؟ أنا أولى بشرائها دون غيري
- أعتذر عن ذلك ولكن كلّ شيء بقدره ، فلقد بعتها لأقرب النّاس لي
- أيّ من يكون قريبك ، أنا أحقّ منه بمقتضى قانون الشّفعة!
- عفوا .. ما هو قانون الشّفعة؟
- الجار أحق للشريك في بيع ممتلكاته لأيّ مشتري
- ولكني استلمت الدفعة الأولى من المبلغ و ..
- اسمعني .. ولكي لا نضيع الوقت، سأدفع لك ضعف المبلغ الذي بعته للمشتري
وبهذه العبارة أتمّ الشيخ "محسن" حواره مع "هارون" وعاد إلى أدراجه ، بينما ترك "هارون" في حيرة من أمره مما جعله يطمع في استحواذ هذه الوليمة الشّهية التي هلّت عليه بغتةً بكلّ جحود وجشع فركب السيارة وهبّ باتجاه الريح لملاقاة أخيه :
- "هارون" كيف حالك، تفضل بالدخول
- شكرا لك ، أنا على عجالة من أمري ، في الحقيقة لا أعرف ماذا أقول لك.. لا يمكنني أن أبيع لك الأرض ، سأردّ لك أموالك واسترجع أرضي
- لم أفهم ، ما الذي تقوله ؟
- لا يحق لي بيعك الأرض فجاري الشيخ "محسن" يريد شرائها والقانون سينصفه بموجب قانون الشّفعة
- قانون الشّفعة ! أنا الأحق منه بقانون الشّفعة بصفتي أخوك فالقانون يشفع لي عوضا عنه
- أرجوك يا أخي لا أريد إحداث مشاكل معك لقد ألغيتُ البيعة وسأرجع لك أموالك
- أموال ماذا ؟ والحلزون ومنزلي وسيارتي وشقاء عمري !
خزِر إليه "هارون" وردّ عليه إجابةً سريعةً .. مقتضبةً ومتحذلقةً :
- سأردهم إليك جميعا واخرج من أرضي
غاب الطماع في زحامه، بينما مكث "رفيق" في لحامه يتشاحن مع أفكاره ، أزمع همّته وهرول إلى المحاكم يُناشد بحقه المهضوم ، وبعد مرور شهر أنصفت العدالة "رفيق" بحقه الشّرعي والقانوني بشرائه قطعة الأرض تحت مظلّة قانون الشّفعة دون عن غيره بالمبلغ المتفق عليه سالفا مع البائع ؛ وبهذا الحُكم أصيب "هارون" برِعدة من الغضب وانبثقت منه شظايا الوغر والهياج.. اشتدّ غيضه، وتخمّط خمطاً مريراً ففكّر بالانتقام وبردّ الصفعة ، وبعد أربعة أيام قام باستئجار أربعة رجال لتهدئة الأتون الحارق الذي استفحل داخل قفصه المتأجج .
كرّت الأيّام برياحٍ غبرةٌ .. قترةٌ .. فمضت أشرعتها بما لا تشتهي السّفن ؛ مضى "رفيق" يومه آنذاك كعادته يتجوّل في أرضه بين الأشجار والمزروعات ثم دنا من بيوت الحلزون ليشمّ رائحة قوية تكاد تعترض طريقه، انضوى بخفة مريبة داخل بيوت الحلزون فتكهربت عيناه عن النظر، زبدٌ طفق مباغتةً على لحمه.. غدره هوائه فرحل عنه واختنق.. تناثرت أشتات أفكاره، والسناج الذّي تَصاعد من فوهة ناصيته قد ألجم دربه .. تبعثرت مشاعره من هول المشهد .. أمسك بالحلزون فوجده يحتضر، فاستخرط ببكاءٍ شديد الوطأة على النّفس المؤمنة، يبكي كالثّكلى مكلومةٌ على فراق مولودها .. على فراق حلزونها!، ينظر للقواقع المغدورة متناثرة هنا وهناك وهي جامدة .. متحجّرة .. هامدة تسأله في صوت متقطع ونواحها يرق له قلب الجاحد بأيّ ذنب قُتلت بمبيد فتك ريعان زهورها ،يُمسك بها وراح يصرخ صرخةً ممجوجةً بالضّجر والوهن والعاطفة .