جلس أيمن عند حافة النافذة، عيناه الواسعتان تتعلقان بالسماء الممتدة بلا نهاية، وكأنه يبحث بين الغيوم عن وجه أبيه. كان الليل قد بدأ ينسج خيوطه على الأفق، والريح تحمل معها أنينًا خافتًا يشبه الهمس في أذنيه. التفت إلى أمه مريم، التي كانت جالسة على السرير، تمسك بيدها قطعة قماش بيضاء تخيطها بخيوط تكاد تقطعها أناملها المرتجفة.
"أمي، متى سيعود أبي؟"
ابتسمت مريم، تلك الابتسامة التي حفظتها جيدًا، حيث يمتزج فيها الثبات بحزن لا يُرى إلا لمن قرأ ما خلف العيون. وضعت القماش جانبًا، وسحبت أيمن نحوها، ضمّته إلى صدرها وكأنها تحاول أن تحميه من الحقيقة، ثم همست في أذنه: "أبوك لم يرحل يا أيمن.. هو معنا، في نبض قلبك، في كل خطوة تخطوها، في كل مرة تكون فيها قويًا وشجاعًا."
رفع رأسه، نظر إلى عينيها يبحث عن إجابة أكثر وضوحًا، لكنها لم تتراجع، لم تترك الألم يتسلل إلى ملامحها، رغم أن بداخلها كان كل شيء ينهار. كم تمنت لو تصرخ، لو تبكي، لو تعود سنوات قليلة إلى الوراء حيث كانت تضم زوجها وتملأ عينيها من وجهه قبل أن تخطفه الحرب. لكنه رحل، رحل وتركها وحيدة، تواجه هذا العالم بطفل صغير يحتاج أن يكون قويًا، لا أن يرى أمه تسقط تحت وطأة الفقد.
مرّت الأيام، وكانت مريم كل يوم ترتدي قناع القوة، تبتسم، تروي لأبنها قصصًا عن البطولة والتضحية، تخبره أن والده كان شجاعًا، وأنه كان يحلم بأن يكون ابنه يومًا ما رجلًا يحمل رايته. وكانت في كل مرة تنطق تلك الكلمات، تشعر وكأن سكينًا يغرس في أعماقها، لكنها لم تكن تملك رفاهية الانهيار.
كانت تخشى أن يصل إلى أيمن حكم بركان الأسى الذي ينبض بداخلها، أن يرى في عينيها تلك النيران التي تحرقها كل لحظة، أن يسمع صراخ قلبها رغم صمتها. كانت تقنعه كل يوم بأقنعة القوة والثبات، تحميه من أن تنفجر أحزانها أمامه، كي لا تحرقه حمم الفقد، وكي لا يشعر أن الحياة التي خاضها والده بشجاعة صارت تنهش قلب من بقي خلفه.
في إحدى الليالي، استيقظ أيمن على صوت بكاء مكتوم، لم يكن صادرًا من بعيد، بل من الغرفة المجاورة، غرفة أمه. اقترب بخطوات مترددة، وضع أذنه على الباب، كان البكاء صامتًا، لكنه سمعه، شعر به وكأنه يرتجف في صدره. لم يطرق، لم يدخل، فقط عاد إلى سريره، واستلقى، وعرف للمرة الأولى أن أمه تبكي وحدها كي لا يراها ضعيفة، وأن خلف الابتسامة التي تضيء وجهها نهارًا، هناك امرأة تنزف ليلًا.
في الصباح، عندما استيقظت مريم، وجدت أيمن قد وضع وردة صغيرة على وسادتها، مع ورقة كتب عليها بخط طفولي: "أنا شجاع مثلك يا أمي."
عندها فقط، سمحت لدمعة أن تنزل، بصمت، دون أن يراها أحد.








































