سارة: "لقد نجحت يا أمي! حصلت على معدل أعلى مما كنت أحلم به... هل أنتِ راضية الآن؟"
الأم، والدموع تترقرق في عينيها: "يكاد قلبي يتوقف من شدة الفرح! أنا فخورة بكِ يا غاليتي... ممتنة لأن الله وفقك ونلت شهادة البكالوريا بامتياز."
سجدت الأم شكرًا لله، وانقطعت الكلمات بين شفتيها، فكانت السجدة أبلغ من أي تعبير. احتضنت سارة بحرارة، ودموع الفرحة تبلل شعرها الطويل، بينما كانت زغاريد الأمل تتردد في قلب الأم، بعد أعوام من السهر والقلق والانتظار.
لكن الفرح لم يكن حكرًا على بيت سارة، فقد انطلقت الزغاريد من شقة مجاورة! خرج الجيران يتساءلون عن سر هذه الفرحة الجديدة، ليكتشفوا أن مريم، الجارة الجميلة التي تزوجت منذ سنتين، قد رزقت أخيرًا بمولودتها الأولى. عادت من المصحة تحمل بين ذراعيها بنوتة تشبه القمر. تعالت التهاني، وهرع الجميع لمباركتها، فكانت البهجة تتنقل من باب إلى باب، ومن قلب إلى قلب.
فرحة البكالوريا تتعانق مع فرحة المولودة الجديدة، والحيّ كأنه يحتفل بموسم خير فجائي، لم يُدرج في رزنامة الأيام العادية. وكان الجيران في هذا النهار السعيد كفراشات السعد، يتنقلون من بيت إلى آخر، يوزّعون التهاني، ويشاركون القُبل والدعوات، والفرحة مرسومة على كل الوجوه، حتى الوجوه التي كانت في الأمس مثقلة بالحزن، أضاءها اليوم دفء الجماعة ولطف القلوب.
وفي غمرة هذه الأفراح، توقفت سيارة فاخرة أمام العمارة. ترجل منها شاب وسيم يحمل باقة ورد، تبعته سيدة خمسينية وشابتان ترتديان ملابس أنيقة، وعبق العطر يتبع خطواتهن. كانت النظرات تتبعهم بفضول، والهمسات تدور: من هي العروس التي ستُطرق بابها اليوم؟
أهي لمياء، أستاذة اللغة العربية التي لطالما شغفتها الحروف ونسيت قلبها بين دفاتر الطلاب؟
أم سارة، المتألقة هذا اليوم بنجاحها؟
أم إيمان، الممرضة الشابة، اليتيمة المؤدبة، التي تتولى رعاية إخوتها الأربعة بكل صبر ومحبة؟
وسرعان ما جاء الجواب: لقد كانت إيمان...
نعم، هي من اختارها القدر اليوم لتُكافأ على كل ما مرّت به من وجع وصبر.
هي التي دفنت طفولتها يوم دفنت والديها، وحملت على أكتافها همّ بيت وأربعة إخوة وهي لا تزال في عمر الزهور.
هي التي لم تتذمر، ولم تطلب شيئًا لنفسها، بل اكتفت بأن ترى إخوتها يكبرون بخير.
وحين اقتربت منها والدة العريس، ووضعت الباقة في يدها المرتجفة، لم تستطع إيمان أن تتكلم... فقط دمعتان انسابتا من عينيها، كأنهما تاريخ من التعب يُمحى بلحظة.
تجمّع الجيران يباركون، وكان في الوجوه ما يشبه الاعتراف الجماعي:
إيمان تستحق السعادة... وها هي الحياة تبتسم لها أخيرًا.
وبينما كانت القلوب تخفق بنبض واحد، ظهرت على استحياء الأستاذة لمياء، تلك التي لطالما عرفوها هادئة، رصينة، لا تشتكي ولا تشارك كثيرًا في أحاديث النساء. ابتسمت وهي تمسك بعلبة حلوى تقليدية، ورفعت صوتها لأول مرة منذ سنوات:
"أردت أن أشارككم فرحتي اليوم، كما شاركتُ فرحكم جميعًا... لقد تمكنت أخيرًا من شراء بيت أحلامي، وسأنتقل إليه بعد سنوات من الانتظار والعمل والحرمان... الحمد لله!"
تعالت الزغاريد من جديد، وتقدّمت سارة ووالدتها وعائلة مريم ونساء الحي ليباركن لها. حتى هي، الأستاذة الهادئة، نالها نصيبها من هذا اليوم المبارك، كأن الحياة وزّعت الفرح بعدل هذه المرة، ولم تنسَ أحدًا.
وفي زاوية أخرى من العمارة، حيث اعتادت النوافذ أن تبقى موصدة، والصمت أن يكون سيد المكان، صدح صوت غريب عن المشهد...
كان بكاءً، لكنه لا يشبه بكاء الحزن، بل صرخات اختلطت فيها العبرات بزغاريد مخنوقة، خرجت من قلب أم عجوز، طالما خبأت وجعها بين الجدران.
إنها الحاجة حورية، تلك الجارة التي عاشت منذ خمس سنوات في حزنٍ ثقيل، منذ أن زُج بابنها الشاب أيمن خلف القضبان، بعد حادثة سير أليمة تسبّب فيها وهو على دراجته النارية، ليُحكم عليه بالسجن، ويُحكم على قلب أمه بالانتظار.
لكن اليوم، وفي غمرة كل هذه الأفراح، جاءها الخبر كهدية من السماء: ابنكِ حُرّ يا حورية!
صدر عفوٌ خاص، وأيمن في طريقه إلى حضنها الآن...
شهقت، وانهارت، وبكت... ثم ضحكت! وكأن الفرح قد تفجّر في قلبها بعد طول خمود.
صاحت بصوت ارتج له الحي:
"الحمد لله يا رب، رجّع لي روحي، رجّع لي وليدي!"
تجمّع الجيران حولها، بعضهم يربّت على كتفها، وبعضهم يمسح دموعه.
كانت تلك اللحظة دافئة، مدهشة، تفوق وصف الكلمات.
فرحة واحدة، لكنها بوزن كل السنوات التي سرقت منها الأمل.
وهكذا، في ذلك اليوم، بدا الحي وكأنه اغتسل من غبار الأيام العادية، وارتدى ثوبًا من نور.
البيوت لم تعد جدرانًا صامتة، بل صارت قلوبًا نابضة بالضياء، والنوافذ كعيون مبتسمة تُصافح الشمس لأول مرة بعد زمن طويل.
ضحكات الأطفال تعانق نسمات الصيف، وأحاديث النساء تمتزج بالدعوات الطيبة، والرجال يتبادلون التهاني كأنهم يوزعون ورودًا غير مرئية.
كان المشهد أشبه بحديقة تتفتح أزهارها دفعة واحدة، كل زهرة تحمل حكاية، وكل حكاية تُزهر بانتصار صغير، لكنه بحجم معجزة في قلب صاحبه.
الأزقة بدت كجدائل من فرح تُضفّرها الأقدام، والأصوات تصعد كأنها أناشيد سماوية، تطرق أبواب السماء وتستجلب المزيد من الرحمة.
لقد كان يومًا غير مألوف، تتساقط فيه الأفراح كما تتساقط أمطار خفيفة على أرض عطشى؛ لا تُغرقها، بل تُحييها.
انتصارات صغيرة… لكنها حين اجتمعت، صارت نهرًا من السعادة يجري بين بيوت الحي، يغسل جراحه القديمة، ويترك في الأرواح يقينًا واحدًا:
أن الفرح، مهما تأخر، يعرف طريقه إلى القلوب الصابرة.
وفي تلك اللحظة، بدا الركن المنسي من المدينة كأنه تحوّل إلى أسطورة قصيرة؛ حيّ بكامله يتوشح بالبهجة، مثل بستان أخضر نبت فجأة فوق صخرة قاحلة.
ومن عمق هذا المشهد، أدرك الجميع أن الحياة، مهما قست، لا تنسى أن تبتسم في النهاية، وأن تمنح الصابرين وردة من نور، في أبهى مواسمها.








































