لم يكن أمير يتخيل يوما أن أقسى خيبة في حياته ستأتيه من أقرب قلب إليه، من تلك التي ظنها حضنا ودرعا، فإذا بها تتحول إلى قبر يطفئ شعلة عمره. كان الابن الوحيد لأمه مريم، تلك الأرملة التي كرست له حياتها بعد رحيل زوجها. ربته على التضحية والسهر، وحلم واحد: أن يصبح طبيباً يحمل عنها فقر السنين ووحدة الأيام. وكان باراً بها، يضعها في أول السطر من حياته كلها.
وحين دخل كلية الطب، تغيرت تفاصيل عمره، وهناك التقى لميس، زميلته الهادئة، صاحبة القلب الشفاف والطباع الراقية. أحبها بصدق، ووجد فيها ما يشبه الأمان الذي افتقده طويلاً. وما إن أخبر أمه برغبته في الارتباط بها حتى تبدل وجه مريم. لم ترَ فيها إلا تهديدا يسلبها ابنها. قالت له بحدة: "أنت طبيب، ومستقبلك يحتاج امرأة في البيت، تهتم بك وبأبنائك. لا وقت لامرأة تعمل مثلك وتتركك وحدك كل يوم!"
حاول أمير إقناعها بأنها فتاة فاضلة وستكون زوجة عظيمة، لكنه كان يصطدم بجدار صلب من الرفض والعناد. وحين عجز عن إقناعها، لجأ إلى خالته ربيعة، الأقرب إلى قلبه بعد أمه، لعلها تلين قلب مريم. ذهبت ربيعة إلى أختها، تحدثت كثيراً عن محاسن الفتاة وعن حق الابن في أن يختار مستقبله، لكن مريم ظلت تسمع من وراء جدار. دام الجدل أياما، حتى بدا وكأن مريم استسلمت أخيرا. وافقت، أو هكذا أوهمتهم.
تمت الخطبة، وفرح الشابان، وبدأت ملامح مستقبل دافئ تتكون. لكن مريم بدأت تماطل في تحديد يوم الزفاف: مرة بحجة المرض، ومرة بحجة الظروف، ومرة لأنها لا تشعر بالارتياح، ومرة لأنها "أم تعرف الخير أكثر من ابنها". وحين أصر أمير وحدد التاريخ بنفسه، صاحت في وجهه: "أنا اللي سهرت وتعبت وربيت! أتظن أنك ستتزوج هكذا ببساطة؟!" أدركت مريم أنها على وشك أن تفقد السيطرة، فانقلبت إلى طريق آخر، طريق مظلم.
كانت هي من ضغطت على خالتِه ربيعة، وألحت عليها حتى أرهقتها. ربيعة كانت فقيرة وتعتمد في الكثير من مصاريفها على مريم. قاومت كثيراً ورفضت فكرة الذهاب للمشعوذ رفضاً قاطعاً، لكن مريم شدت على يدها، توسلت، بل هددت، حتى استسلمت الخالة ليس اقتناعا، بل اضطراراً. رافقتها إلى الدجال وهي ترتجف، لا تريد أن تشارك في شيء كهذا، لكن عيني أختها المكسورتين من الخوف على ولدها كانتا سجناً لا مفر منه.
ذهبتا عند المشعوذ "المسعود" ليصنع عملاً يبعد أمير عن الزواج، ويجعله يعزف نهائياً عن الارتباط. بين بخور خانق وأحبال معقودة ووعود شيطانية، صنع الرجل عملا غامقا قذرا لا هدف منه إلا الخراب.
تزوج أمير ولميس، وبدا كل شيء طبيعيا حتى ليلة الزفاف... الليلة التي تحولت إلى جنازة فرح. شعر أمير بأن شيئا يمنعه، شيء لا منطقي، لا طبي، لا مفهوم. ارتبك، ارتعب، وتوالت الليالي على نفس الحال. زار عشرات الأطباء، وتحاليل وفحوصات، والنتيجة واحدة: لا يوجد أي خلل عضوي على الإطلاق. انهارت حياته الزوجية، وطلب الطلاق رغم دموع لميس، ثم سافر كل منهما بعيداً عن الآخر بقلب مكسور.
بدأت حياة أمير تنطفئ، وعاش في عزلة مريرة، وذبلت صحته، وتلاشت أحلامه. وأمه؟ كانت تذوب بصمت، تخاف من الحقيقة، وتخاف أكثر من لحظة انكشافها. حتى جاء اليوم الذي سقطت فيه أرضاً من شدة النزيف. حملها أمير إلى المستشفى، وهناك التقت الخالة ربيعة بوجهه الشاحب، ولم تستطع أن تواصل الصمت. قالت وهي تبكي: "اسمح لي يا وليدي، لازم تعرف الحقيقة، لازم تعرف شنو درنا فيك أنا وميمتك..." انهار أمير، وخرج هارباً من المستشفى، ومن العالم كله، واختفى.
مرت شهور طويلة، بحث الجميع عنه بلا جدوى. كانت مريم تنطفئ كل يوم أكثر، ولم تجد غير لميس لتستعطفها. اتصلت بها، بكت، وترجتها أن تساعدها في إيجاد ابنها. عادت لميس من سفرها، وبحثت، حتى اهتدت صدفة لطبيب في قرية نائية، وهناك وجدته: أمير. لكنه رفض العودة لبعض الوقت، إلى أن أخبرته بأن أمه تحتضر. عاد معها بعد صراع طويل.
دخل غرفتها، رأته، فبكت. مدت يداً مرتعشة نحوه، لكنها لم تصل. وغابت. بقي واقفاً فوق انهياره، لا يعرف كيف يبكيها ولا كيف يبتلع ما حدث وما فعلت أمه لوحيدها. لفظت أنفاسها الأخيرة وانتهت قصة أمومة تجردت من كل مقومات الإنسانية. رحلت وبقي أمير يسبح في ضياع تام وفراغ خانق.
وبعد رحيل مريم، لم تترك الخالة ربيعة الجرح ينزف بلا دواء؛ فقد حملتها رغبتها في التكفير عن ذنب لطالما أثقل روحها إلى العودة من جديد إلى ذلك المكان المظلم، لكن لا لارتكاب الخطيئة هذه المرة، بل لمحوها. ذهبت وحدها إلى المشعوذ نفسه، وأجبرته بدموع الندم، وبما تبقى لها من قوة، على إبطال العمل الذي صنعاه يوماً لخراب حياة أمير. خرجت من عنده كمن خرج من قبر، تحمل في يدها أثقالاً، وفي قلبها دعاء واحدا: أن يشفى ابن أختها من لعنة لم يكن يستحقها يوما.
وبينما كانت لميس تحاول جاهدة أن تعيد نوراً إلى روح أمير، جاءها خبر إبطال السحر، وتقرر معه أن تمنح قلبها فرصة أخيرة للعودة إلى صاحبه. وبعد فترة من العلاج والراحة، استعاد أمير رجولته، واستعاد شيئاً من سلامه الضائع، فعادت لميس إلى حياته... زوجة وشريكة وأمانا.
لكن الفرح كان دائما أبتر، سعيدا من الخارج، مجروحا من الداخل. كان أمير يضحك، لكن في أعماقه بكاء. وكان يفرح، لكن قلبه ينزف كلما لامس الذاكرة. أحب أمه... أحبها إلى الحد الذي يجعله يغفر... لكنه لم يستطع أن ينسى. بقي باراً بها، يزورها في قبرها، يقرأ لها الفاتحة، ويبكيها كطفل... لكن شعوراً آخر كان يسكنه كظل: "لقد أحببتها بما يكفي أن تغدر بي، وبما يكفي أن تموت قبل أن أصل إليها... وبما يكفي ألا تقدر بري يوماً."
عاش أمير... وعاش معه جرح لا يرى، لكنه لا يندمل.
جرح أمومة مسمومة...
علمته أن بعض القلوب التي خلقت لتحمي... قد تقتل دون أن تشعر.




































