في البدايات، يبدو العطاء فعلًا نقيًا، أشبه بيدٍ ممدودة من القلب بلا حساب. نمنح لأننا نؤمن، لأننا نحب، لأن ضمائرنا لا تعرف المساومة. لكن مع الوقت، ومع تكرار العطاء بلا حدود، يحدث شيء خفيّ لا ينتبه له الكثيرون: تتغير زاوية النظر. لا يعود العطاء فضيلة تُقدر، بل يصبح “معتادًا”، ثم يتحول دون قصد إلى معيار تُقاس به قيمتك، وكأن وجودك اختُصر في ما تقدمه فقط.
وهنا تتجلى تلك المقولة القاسية في معناها العميق، إلى المفكر وعالم الاجتماع علي الوردي:
"كلما عملقتَ الآخرين، أصبحتَ قزمًا في عيونهم".
العطاء الكثير لا يضع صاحبه في موضع الامتنان، بل في موضع التقييم الدائم.
ليس لأن المُعطي ينتظر الشكر أو المقابل، بل لأن النفس البشرية بطبيعتها تعتاد ما يتكرر، وتفقد الإحساس بقيمته. ما كان يومًا فضلًا، يصبح “واجبًا”، وما كان كرمًا، يتحول إلى حق مكتسب. فيتحول السؤال من: كم أعطيت؟ إلى: لماذا لم تعطِ هذه المرة؟
الإنسان لا يُقيم ما يعلو عليه بقدر ما يُقيم ما يظنه متاحًا أو مضمونًا.
ومن زاوية الطب النفسي، يشير الدكتور أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسي وعضو الجمعية العالمية للطب النفسي، إلى أن العلاقات غير المتوازنة تُنتج تشوهًا في الإدراك المتبادل؛ حيث يفقد أحد الطرفين الإحساس بحدوده النفسية، بينما يفقد الطرف الآخر الإحساس بقيمة ما يُمنح له. فالعطاء الزائد، حين يُمارَس دون وعي أو ضوابط نفسية واضحة، يُسقط صاحبه تدريجيًا من موقع الندية الإنسانية إلى موقع الاستخدام، لا لأن الآخرين أشرار، بل لأن النفس البشرية تتكيف سريعًا مع ما لا يقاومها.
كما تحدث الدكتور يحيى الرخاوي (رحمه الله) عن ما يمكن تسميته بـ“الذات المهدورة”، وهي الذات التي تُعرِّف قيمتها فقط من خلال خدمة الآخرين وإرضائهم، حتى تفقد إحساسها باستقلالها الداخلي. في هذه الحالة، لا يراك من حولك كما أنت، بل كما اعتادوا أن تكون: دور ثابت، ومصدر دائم للعطاء، لا إنسانًا له احتياجات وحدود.
وفي علم النفس يُشار إلى هذا النمط باسم الاعتمادية العاطفية الخفية، حيث يربط الإنسان قيمته بما يقدمه لا بما هو عليه. ومع الوقت، يصبح تحت ميزان صامت لا يتوقف عن القياس: ماذا قدّم اليوم؟ ولماذا تأخر؟ ولماذا تغير؟
العطاء هنا لا يُحتفى به، بل يُراقَب.
ولأن النفس البشرية تميل إلى تعظيم ما يصعب الوصول إليه، فإن العطاء الذي لا يعرف التوقف يفقد رمزيته. ليس لأن الخير يفقد قيمته، بل لأن غياب الحدود يُفرغه من معناه. الإنسان مهما بدا طيبًا يحترم من يحمي مساحته أكثر ممن يفتح نفسه بلا أبواب. فالحدود ليست قسوة، بل لغة نفسية تقول: أنا موجود.
وقد تناول الأدباء المصريون هذه الفكرة مرارًا بوصفها مأزقًا إنسانيًا متكررًا، حيث تُقدَّم الطيبة المفرطة في الأدب لا كفضيلة ناقصة، بل كفضيلة غير محمية. الأدب هنا لا يهاجم الخير، بل يُحذّر من أن يتحول الإنسان إلى ظل نفسه حين يبالغ في العطاء على حساب وعيه بذاته.
وهنا يظهر ما يمكن تسميته بميزان العلاقات.
كل علاقة إنسانية، أيًا كان نوعها، تخضع لميزان داخلي غير معلن. ميزان لا يُقاس بالكلمات، بل بالشعور: هل أنا مُقدَّر؟ هل جهدي مرئي؟ هل وجودي إضافة أم مجرد مورد؟ حين يميل الميزان لطرف واحد، لا تنكسر العلاقة فورًا، لكنها تفقد عدالتها. طرف يُرهق، وطرف يعتاد. طرف يبرر، وطرف يُقيم.
التوازن الحقيقي لا يعني تساوي العطاء حرفيًا، بل تساوي الإحساس بالقيمة. أن تعطي دون أن تُمحى، وأن تأخذ دون أن تشعر بأنك مدين بوجودك. حين يشعر الإنسان أن عطاءه لا يُنقِصه، بل يُعبّر عنه، يكون الميزان سليمًا. وحين يشعر أن عطاءه يُستهلك ولا يُقابَل، فهنا يبدأ الخلل.
كثيرون لم يُساء فهمهم لأنهم طيبون، بل لأنهم سمحوا لأنفسهم أن يكونوا دائمًا متاحين، دائمًا جاهزين، دائمًا بلا شرط. ومع الوقت، يتحول العطاء من اختيار حر إلى التزام مفروض، ومن فضل إنساني إلى حق مكتسب.
وفي النهاية، أنا لا أقول: كُفّ عن العطاء.
ولا أدعوك إلى القسوة، ولا إلى تغيير جوهرك.
أنا فقط أقول: أعطِ لمن يستحق.
أعطِ لمن يرى فيك إنسانًا لا وظيفة.
لمن يوازن حضورك بحضور، لا بتقييم.
لمن إذا توقفت لحظة، سأل عنك… لا حاسبك.
فالعطاء الحقيقي لا يُفقِرك من نفسك،
ولا يُصغِّرك في عيون الآخرين، بل يُمارَس من موضع وعي،حيث الكرامة ليست نقيض الخير، بل شرطه الأول.





































