"صديقي"
قبل أن تمضي، امنحني بضع دقائق من وقتك، لا أطلب منك أكثر من أن تقرأ بقلبك، لا بعينيك فقط، لن أفرض عليك رأيًا، لكن ما أريد الحديث عنه قد يمسك كما مسني، لا أعلم إن كنت سأُجيد الوصف، لكنني سأحاول أن أكون مخلصًا لوقتك، صادقًا في الطرح، أمينًا في التعبير.
نحن اليوم نعيش في قلب دوّامة اسمها “السوشال ميديا” نتأثر بها من حيث لا نشعر، ويتشكل وعينا تدريجيًا وفق ما تفرضه، لا ما نختاره، هذا الجيل مختلف عما قبله، وسيكون مختلفًا عمّا بعده، فما الذي تغير؟ وما الذي يُخشى أن نفقده بعد خمسين عامًا من بداية الألفية؟
"صديقي"
كنا نعيش زمنًا يفيض بالحياة، كنا نسمع ضحكات الجيران، ونرى وجوه الأصدقاء، لا صورهم فقط، كنا ننتظر الرسائل بلهفة، لا نغرق في إشعارات لا روح فيها، كنا نعيش الواقع بكل ثقله وجماله، ولم نكن نهرب منه إلى العالم الافتراضي، واليوم؟ باتت المشاعر مختصرة في رموز، واللحظات الجميلة لا تُعاش بل تُصور، والصدق بات أمرًا نادرًا بين فلاتر الكلمات والصور.
تؤكد دراسات حديثة أن الإفراط في استخدام وسائل التواصل يسبب اضطرابات في الصحة النفسية، منها القلق الاكتئاب، والعزلة الاجتماعية، كما تشير الأبحاث إلى أن التواصل الرقمي المستمر يضعف مهارات الحوار، ويُقلل من القدرة على التركيز، بل ويؤثر على جودة النوم والروابط العاطفية الحقيقية، الدماغ البشري يتأثر بما يراه باستمرار، فيبدأ في مقارنة نفسه، ثم التقليل منها، دون أن يشعر.
فأشعر أننا، شيئًا فشيئًا، نفقد الإنسان داخلنا، أصبحنا نبحث عن التقدير في شكل “إعجاب” ونقيس نجاحنا بعدد “المتابعين” لا بما نفعله في الواقع، صارت الصورة أهم من الفكرة، والمظهر أقوى من الجوهر، لا أرفض التقدم، لكني أرفض أن يُغرقنا دون أن نشعر، نحن بحاجة إلى وقفة، إلى إعادة النظر، إلى أن نُمسك الهاتف بوعي، لا بعادة.
ورغم كل هذا، لا يزال هناك بصيص من الأمل، هناك من بدأ يسأل، يتأمل، ويعيد حساباته، هناك من يُحاول أن يعود للكتب، أو للطبيعة، أو لنفسه، لا نحتاج إلى مقاطعة تامة؛ بل إلى توازن، أن نُدرك أننا لسنا مضطرين لمواكبة كل شيء، ولا أن نُشبه الجميع، يكفينا أن نكون نحن، أن نحيا بصدق لا بصدى.
"صديقي"
لن أطلب منك أن تنسحب من هذا العالم الرقمي، لكنني أدعوك أن تُحسن استخدامه، أن تزرع وعيًا حيث يزرعون لهوًا، أن تبحث عن المعنى في زمن الصورة، وأن تظل وفيًا لما بداخلك، فربما تكون تلك اللحظة التي قضيتها هنا بداية صغيرة لوعي كبير… وصدقٍ لا يُزيفه “فلتر”.





































