لا أريد أن أرهقك بكثرة الكلمات، وأدرك أن وقتك قد لا يسمح بالتوقف طويلًا عند سطورٍ كهذه، فلن ألومك إن لم تُكمل القراءة. لكن، إن كان يهمّك أن تعرفني حقًّا، فاعلم أنني هنا أعاهد نفسي قبل أن أعاهدك: أن أكون صادقًا، عاريًا من التزييف، مُعبِّرًا عمّا في داخلي كما هو، بلا أقنعة ولا زينة.
هناك فرق بين أن تُرى وبين أن تُفهم، كلُّ منا يملك وجهاً تُعرضه العيون، ووجهاً آخر تسكنه القلوب، ما تراه العين يمر كصورةٍ عابرة، وما تصفه القلوب يبقى نقشًا يلازمنَا. إن كنت تبحث عني بسطحيةٍ عابرة، فستجد صورةً لا تروي شيئًا، وإن بحثت عني بعمقٍ وأمانة، فسأظهر لك كما أنا — لا أختبئ خلف أقنعة ولا أختزل في سطرٍ واحد.
ستجدني جميلاً في عيون من أحبوني بصدق، في قلوبٍ قرأتني قبل أن تقيمني، وفي أرواحٍ لامست جوهر نفسي قبل أن تحكم على ملامحي. فإن أردت حقًا أن تعرف من أنا، فلا تُرهق نفسك بالسؤال عني؛ بل ابحث عني في ذاكرة من خالطوني، في شهادات من عايشوني، فهُم المرآة التي تعكس حقيقتي بلا زينة ولا طمس.
أنا لا أرتدي ثوب المثالية، ولا أزعم أنني الأفضل بين البشر، فأنا ابنُ ضعفٍ وقوة، أخطئ بقدر ما أصيب، وأتعلم من كل سقطة كما أفرح بكل قيام؛ لكنني لم أُتقن يومًا صناعة الزيف، لم أتدرب على الأقنعة، ولم أتعلم المجاملة الزاحفة على حساب حقيقتي. حين أُحب، أحب بملء القلب، لا أعرف أنصاف الحضور، ولا أُتقن التجزئة في مشاعري، أنت تأخذني كلي أو تتركني كما أنا.
وقد يرى بعضهم في صورةً مشوهة، يراني ثقيلًا، أو متكلفًا، أو حتى متصنعًا، لكنني لا ألوم أحدًا، فلكلً زاويته التي ينظر منها. ربما كنت في حكايتهم بطلًا هشًّا أو شخصيةً عابرة بلا معنى، وربما كتبتُ في صفحاتهم سطرًا أثقل من أن يُمحى. هذا لا يُزعجني، فالحياة في جوهرها روايات متوازية، كلٌ يكتب نسخته عن الآخر، ولا أحد يملك النص الكامل.
قد يصفني البعض بجابر الخواطر، أو بذاك الذي يوزع كلماته كزهور على الأرصفة، لكني لست بائع عطور يخفي عطنًا داخلي، ولا مطبلًا يبحث عن رضا أحد. أنا فقط إنسان يحاول أن يزرع بعض الضوء في العتمة، أن يُقيم جسرًا صغيرًا فوق نهر الحزن، حتى وإن كان الجسر لن يحملني أنا يومًا.
وإن وجدتَني غير جميل في طبعي، فتأكد أنني لم أكن يومًا قصدًا سيئًا، بل كنت انعكاسًا لروحٍ واجهتني. أنا لستُ سوى صدى لقلوبٍ التقيتها، مرآة تُعيد الوجوه كما دخلت إليها، إن جئت صادقًا وجدت الصدق، وإن جئت بغير ذلك انعكس عليك ما جئت به.
نحن لسنا مخطئين، لا أنت ولا أنا؛ نحن فقط أقدار تمشي على الأرض، تتقاطع حين يشاء الله، وتفترق حين يُكتب الافتراق. نحن قلوبٌ تقترب حين تتناغم نبضاتها، وتتنافر حين يعلو في داخلها ضجيجٌ لا يتوافق مع إيقاع الآخر.
فلا تسعَ أن تفهمني كلي، ولا أحاول أن أُقيدك بتصوراتي، يكفينا أن نلتقي كما نحن، بلا رتوش، بلا أقنعة، وبلا حبال تُقيد الروح، وإن افترقنا، فليكن الفراق أيضًا صادقًا، يحمل بقايا نور لا عتمة، وبقايا ود لا جفاء.
يا صديقي، إن أردت أن تمسك بي من كلمةٍ واحدة فخذ هذه: أبحث عن الصدق. ليس صدق الأقوال فحسب، بل صدقِ النيات، صدقِ الهمسات، صدقِ الأفعال الصغيرة التي تُبنى منها الثقة. أعرف أن العالم يُغريك أحيانًا بملابس براقة، وبأقنعة تَسهُلُ بها اللقاءات، لكني أختار دومًا طريقًا أضيق — طريقًا قد يبعد عني بعض الأرواح ولكنه يُبقي لي حقيقتي دون أن تنحرف.
لكل من يبحث عني حقيقةً، أعلم أن الشك قد يساورك أحيانًا؛ فكيف تثق بمن لم يفرِض نفسه على الوثوق؟ أقول لك ببساطة: راقبني في التفاصيل، راقب مواقفي عند الألم، راقب ملامح اهتمامي حين لا أملك شيئًا لأعطيك إلا وقتي، راقب كيف أعود حين أُخطيء وكيف أعتذر إن كنت مخطئًا. هذه الأشياء الصغيرة هي التي تُحدد الإنسان أكثر من شعاراتٍ تُرفع في المناسبات.
وأريدك أن تعلم — وأقولها لمن يبحثون عني بصدق — أنني أُحب دون أصفاد،أحب لأن في الحب خلاصًا، ولأن في العطاء إخلاصًا ينبض. لا أفرض نفسي على أحد، ولا أتصنع قربًا ليُدون في دفاتر الذاكرة. إن تقاربنا فلن يكون مدنسًا برغبةٍ مزيفة، وإن افترقنا فليكن لأن صدقنا مع بعضنا أكبر من أن يُستمر في صورةٍ غير صادقة.
قد تظن أن هذا كلامٌ بسيط أو مثالي، لكنني أرى فيه طريقًا لحياة أقل تشابكًا وأكثر صفاءً؛ لأن الحياة التي تُبنى على الصدق مهما كانت قاسية، أو وحيدة أحيانًا تمنح صاحبها راحةً لا تُقاس، وهدوءًا لا يأتيه ضجيج الإدعاء.
أعدك يا صديقي، إن بقيت، أن أكون كما أنا: صريحًا حين أستطيع، حنونًا حين أحتاج، وصادقًا مهما كلفني ذلك. وإن رحلت، فاذكر أن ما بيننا كان حقيقةً تحريريةً لكليتنا، لا مجرد مشهدٍ لعب فيه القدر أدوارًا عابرة.
إن أردت أن تعرفني فاسأل مَن عرفوني حقًا، ولو كلفك ذلك بعض الصبر. لكن إن لم يكن لديك صبر، فاقرأني هنا، بين السطور، كما أكتبها لك بلا رتوش.
دمتَ لي صديقًا إن أحببت، وإن كنت تبحث عني فقد وجدتَ صفحةً واحدةً من كتابي وربما كفاها لمن أراد أن يعرف.





































