هناك لحظات يجبرك فيها العالم على أن تنظر إلى مرآتك الداخلية، لا لتعدّ ما خسرت، بل لتتأمل ما تبقّى منك، وما نجا وسط كل ذلك الزحام. لحظات تشعر فيها أنّك لو لم تنسحب قليلًا، لو لم تُسكت ضجيجك رغماً عنك، لما سمعت نبضك الحقيقي وهو يطالبك بالعودة إليه. ولأن بعض الطرق لا تُفتح إلا حين نختلي بأنفسنا، جاءت تلك المرحلة كأنها رسالة… لا فِرار منها ولا تأجيل.
أنا لست كما كنت.
يظن البعض أنني نسختي الأسوأ، وأنني أبتعد لأخبئ سقوطًا ما، لكن الحقيقة أنني الآن أقوى، وأنضج، وأهدأ مما كنت عليه يومًا. ما أنا عليه اليوم ليس ضعفًا… بل نتيجة تعافٍ طويل لم يره أحد، رحلة عودة إلى نفسي استهلكت الكثير من الصمت والكثير من الصبر.
تعلمت أن العزلة ليست قسوة، بل نجاة.
في بدايتها شعرتُ بأنها صدمة باردة، كأن العالم كله توقف فجأة، لكن مع الوقت اكتشفت أنها كانت أعظم هدية حصلت عليها دون أن أطلبها. اكتشفت أنني لا أحتاج الكثيرين حولي، وأن شخصًا واحدًا صادقًا يكفي، وأنني حين أبتعد لا أهرب من الناس، بل أقترب من نفسي أكثر فأكثر.
عزلتي وابتعادي لم يكونا حُكمًا على أحد، ولا انتقامًا من أحد.
كانا قرارًا لأجل نفسي التي أهملتها طويلًا وأنا أحاول أن أكون كل شيء للجميع. في هذه العزلة بدأت ألتقط أنفاسي، بدأت أتعافى نفسيًا… تعافيًا يشبه تضميد جرح ظل مفتوحًا سنوات دون أن ألتفت إليه. بدأت أتعافى جسديًا أيضًا، أرتاح، أنام بعمق، أتنفس كأن الهواء عاد أخيرًا في موضعه الصحيح.
صرت أعتني بنفسي… لنفسي.
ألتمس لها الرحمة، وأمنحها وقتًا لم تحصل عليه من قبل.
أقرأ أكثر، أكتب أكثر، أتعلم وأتطور، وأقوم بكل ما كان يبهت مني يومًا وراء مسؤوليات لا تنتهي. أدركت كم كنت أستنزف من وقتي وطاقتي لأجل علاقات لم تحفظني كما كنت أحفظها، وكم ظللت أُهمل جسدي وروحي وأنا أركض خلف أشياء لم تكن تستحق كل ذلك الركض.
ابتعادي لا يعني أنني تغيرت، بل يعني أنني فهمت.
فهمت أن لنفسي حقًا عليّ، وأن الراحة التي وجدتها في وحدتي لم تكن هروبًا بل كان يجب أن أصل إليها منذ زمن. وحتى إن ابتعدت، ستجدني عند الحاجة، سندًا لا يسقط أحدًا، وقلبًا يعرف أين يكون. لكن دائرتي أصبحت ضيقة… ضيقة بما يكفي أن يدخلها من يقدر قيمتها، ومن يعرف معنى أن تبقى.
ولن أفتح الباب من جديد لمن خرج، مهما كانت مكانته سابقًا. ليس لأنهم سيئون، ولا لأنني أنكرت فضل أحد، لكن لأن ما أفعله اليوم… هو الأفضل لي أولًا، ولهم أيضًا. فالعلاقة التي لا تضيف، تنقص، ومن ينقصك دون قصد… عليك أن تبعده بقصد.
وفي النهاية أدركت أن الإنسان لا يكتمل حين يشتد، بل حين يهدأ. لا يقوى حين يزيد، بل حين يتخفف. وأن أقرب الطرق إلى السلام كان دائمًا هو الرجوع إلى نفسك التي أهملتها طويلًا. وأنا اليوم… أعود.
أعود إلى نفسي التي كانت تنتظرني، وأتعافى ببطء جميل، وأعتني بقلبي وجسدي وروحي كما لم أفعل يومًا. وما أعد به نفسي الآن… أنني لن أتركها مرة أخرى.






































