نحن نحارب ونحاول ونسعى جاهدين باحثين عن السعادة، كأننا ندور في متاهة طويلة نحمل على أكتافنا أثقال الأيام ونسابق ظلالنا الهاربة.
نمضي بخطوات متعبة، نلهث أحيانًا وننهض أحيانًا أخرى، وفي منتصف هذا الركض المحموم ندرك فجأة أن السعادة التي نطاردهـا ليست في نهاية الطريق، بل كانت تنام بهدوء في أعماقنا، تنتظر لحظة صدق لنراها. نكتشف أن السعادة ليست حدثًا صاخبًا يهز الروح، بل لحظة صفاء تشبه النسيم حين يمرّ على قلبٍ مرهق فيعيد إليه نبضه، وتشبه ضوء فجرٍ خفيف يتسلل ليمحو عتمة الليل دون أن يوقظ أحدًا.
السعادة الحقيقية لا تحتاج ضوءًا قويًا لتظهر، بل تكفيها شرارة صغيرة، كلمات دافئة، حضن مطمئن، كوب شاي بعد يوم مرهق، أو ضحكة تأتي من غرفة قريبة.
نحن نبحث في الخارج عما يسكن الداخل، ونركض نحو الكثير بينما يكفينا القليل.
كم مرة ظننا أن الفرح يقيم في امتلاك الأشياء، بينما الحقيقة أنه يسكن طريقة نظرنا إليها؟ ولعل أعمق ما يُقال في هذا المعنى ما كتبه الأديب المصري أحمد خالد توفيق: "السعادة ليست حالة دائمة… هي ومضات، وإذا جمعها الإنسان بعناية خرج منها بخيط نور يقوده في العتمة".
كلماته تذكرنا بأن السعادة ليست كنزًا نحتفظ به، بل حبات ضوء علينا أن نتعلم كيف نلتقطها، وكيف نصنع منها عقدًا من الطمأنينة يلتف حول القلب فيمنحه ثقة ودفئًا.
نحن نقاتل من أجل أشياء كثيرة نعتقد أنها ص عبور للسعادة: وظيفة ومكانة، مال وجاه، مظهر كامل، علاقة بلا شروخ، رضى الآخرين، أو نجاح يصفق له الجميع.
لكن الحقيقة أن كل ذلك مثل محاولتنا ملء وعاء مثقوب؛ مهما ملأناه من الخارج، يتسرب النقص من الداخل.
السعادة التي لا تنبع من الروح، لا تصنعها أي يد في العالم.
ولهذا قال مصطفى محمود حكمة لا تزال صالحة لكل زمان: "السعادة في الداخل… فمن فقدها من داخله لن يجدها في الخارج مهما مُنح".
إنها جملة تُشبه مرآة؛ تعكس كل ما نحاول تجاهله حين نُلقي باللوم على الظروف وننسى أن جروحنا الحقيقية تسكن داخل صدورنا.
الرضا هو مفتاح كل هذا.
الرضا ليس سقوطًا من يد المقاومة، ولا استسلامًا للعجز، بل هو القوة الهادئة التي تعرف كيف تحتضن النقص دون أن تتشقق، وكيف تنظر للخيبات باعتبارها دروسًا لا هزائم؟.
الرضا هو أن نتعامل مع الحياة كما نتعامل مع البحر؛ لا نحاول إيقاف الأمواج، بل نتعلم كيف نعبر فوقها دون أن نغرق، هو أن نطمح دون أن نُعذب أنفسنا بالطموح، وأن نحلم دون أن نحرق قلوبنا لأن الطريق طويل، هو يقين عميق بأن الزمن لا يتأخر، بل يأتي حين يحين موعده، وأن الأشياء لا تُنتزع منّا ظلمًا بل تُبعد عنا رحمةً.
ومن وجهة نظري، السعادة ليست هدفًا نقف عنده ونلتقط صورة، بل رحلة طويلة نصنعها من أفكارنا ومشاعرنا وكيف نحمل أنفسنا خلال العثرات!.
السعادة هي في أن نرى المعنى داخل الألم، أن نفهم أن الجروح ليست نهاية، بل ممرات لشيء جديد يتشكل بداخلنا. هي في أن نلتقط الجمال من الفوضى، ونحمل النور في جيوبنا الصغيرة، ونصنع لأنفسنا أسبابًا للابتسام مهما كان العالم ثقيلًا.
هي أن نؤمن، كما قال أحمد خالد توفيق: "أن الحياة لا تهتم برغباتك، لكنها تكافئ من يفهمها ويصادق قوانينها".
وهذا الفهم وحده هو الذي يجعل الإنسان أكثر استعدادًا لالتقاط الفرح حين يمر أمامه دون ضجيج.
ونضيف إلى هذا كله حقيقة لا يمكن تجاهلها: أن السعادة أحيانًا تحتاج إلى شجاعة؛ شجاعة أن نترك ما يؤذينا رغم تعلقنا به، وشجاعة الاعتراف بأن بعض الطرق، مهما أحببنا بدايتها، لا تناسب رحلتنا. تحتاج شجاعة أن ننظر داخلنا دون خوف، وأن نواجه ضعفنا دون جلدٍ أو إنكار. السعادة تحتاج قلبًا خفيفًا، وروحًا تقبل التغيير، وعيونًا ترى الجمال حتى في الأماكن المهجورة من الفرح.
نحن لا نملك حياة كاملة، ولا نصنع كل ما نشتهي، لكننا نملك دائمًا ما يكفي لنكمل الطريق.
وكلما تعلمنا أن نرى ما لدينا قبل أن نطيل النظر لما ينقصنا، كلما اكتشفنا أن السعادة لم تكن يومًا في مسافات نركض خلفها، بل كانت تقيم في خطواتنا نفسها… في قلب راضٍ، وروح تعرف أن الله لا يكتب إلا الخير، مهما طال الطريق إليه، ومهما اختبأ المعنى خلف ستار الغيب.
السعادة كانت دائمًا هنا، تنتظر فقط أن نصمت قليلًا… لنسمعها.






































