ثمة أشياء لا تُرى بالعين، ولا تُقال باللسان، لكنها تُهزّ القلب كما تهزّ الريحُ غصنًا نائمًا في ليلٍ ساكن.
شيءٌ غامض يولد فينا دون موعد، يربك توازننا، ويعيد ترتيب ذواتنا كما لو أن أرواحنا وجدت أخيرًا موطنها بعد غربةٍ طويلة.
ذلك الشيء… لا اسم له في البداية، لكنه مع الوقت يصير حبًا.
والحب — يا صديقي — ليس كلمةً تُقال، بل كوكبٌ يسكننا، يدور في فلكٍ لا نراه، لكنه يتحكم في كل مدارات قلوبنا.
الحب ليس روايةً تُروى ثم تُغلق صفحاتها حين يملّ القارئ، ولا هو حكاية عابرة بين شابٍ وفتاةٍ جمعتهما صدفة وفرقتهما ظروف.
إنه السرّ الأعظم في كيمياء الوجود، النبضة التي تمنح الحياة معناها، هو الإحساس الذي يجعل العاديَّ معجزة، والبعيد قريبًا، والمستحيل ممكنًا.
هو شعورٌ لا يُكتب بالحبر، بل يُسكن الدم، يُسكته الجسد لكن تصرخ به الروح كلما حاولنا إخفاءه.
الحب الحقيقي لا يتقيد بشكلٍ واحد، فقد يكون حبًّا بين قلبين جمعهما الودّ، أو حبًّا بين صديقين تصادقا على صدق النية لا على المصلحة، وقد يكون حبًّا في الله، نقيًّا كالندى، يزهر بالدعاء في الخفاء، أو حبًّا عابرًا للأجساد، يسكن الأرواح فلا تعرف له وجهًا أو سببًا.
فليس كل حبٍّ شهوة، وليس كل ودٍّ عبور، بعض القلوب تُحب لله، وبعضها تُحب بالله، وأجملها تلك التي تُحب لوجه الله خالصة، لا تنتظر شيئًا سوى أن يرى من تحب بخيرٍ ولو من بعيد.
إن من يحب بحق لا يطلب شيئًا سوى أن يُبقي الله من يحب في أمنٍ وسلام.
هو لا يسأل كم أعطي؟ وكم أخذ؟ بل كيف أُسعده وإن لم أملك شيئًا؟.
فالحب يجعلنا أقوى من عجزنا، وأكرم من فقرنا، وأغنى من مالنا.
من يحب يقدر على ما لا يُقدر عليه، قد يسهر الليالي ليطمئن على قلبٍ ليس في بيته، وقد يضحي بابتسامته ليزرع البسمة في وجه من يحب، حتى إن كان على غير طاقته، فإنه يفعلها… بحبٍّ لا يُفسَّر.
هل فُرضت التضحية على طرفٍ دون الآخر؟
كلا.
فمن أحبّ لا ينتظر فرضًا، هو يختارها اختيارًا كما تختار الوردة أن تفوح بعطرها حتى وإن اقتربت منها يدٌ لتقطفها.
لكن الحب لا يكون سليمًا إن كانت التضحية طريقًا باتجاهٍ واحد، إذ لا تستقيم سفينة بمجدافٍ واحد، ولا يُزهر الحب إن سُقي من يدٍ واحدة.
فالحب الحقيقي هو مشاركة الروحين في حمل الحياة، أن يتقاسما الألم كما يتقاسمان الفرح، أن يتكئا على بعضهما حين يثقل أحدهما، أن يربت أحدهما على جرح الآخر حتى يهدأ، ثم يبتسمان لأنهما ما زالا معًا رغم كل العواصف.
لا مقارنات في الحب…
فمن قارن فقد لوّث صفاءه.
الحب لا يُقاس بالأفعال الظاهرة، بل بصدق النية الخفية، ولا يُوزن بالهدايا، بل بالنية التي خُلقت منها الهدية.
رب كلمة “احذر على نفسك” قيلت بصدقٍ،
كانت أعظم من مئة “أحبك” قيلت عادةً.
وكم من نظرةٍ واحدةٍ حملت في طياتها ألف وعدٍ صامت، كانت كافية لتُعيد الطمأنينة إلى قلبٍ مهزوم.
الحب الحقيقي لا يطلب دليلاً على وجوده،
لأنه يُشعرك بأنك حيّ حتى في موتك، وأنك لست وحدك حتى في وحدتك.
مجرد أن تلتقي العيون كفيلٌ بأن يُزيح عنك أثقال الأيام، كأن النظرة صلاة، والعينان محرابان، واللقاء ركعةٌ من السكون تطهر القلب من ضجيجه.
أما عن واجبات المحبين، فليست قوانين تُكتب، بل أمانات تُحمل في الصدر.
على كلٍّ منهما أن يصون الآخر كسرٍّ ثمين، أن يحميه من قسوته قبل قسوة العالم، أن يكون له وطنًا صغيرًا حين تنفيه الحياة.
أن يشاركه الصمت حين يعجز الكلام، وأن يغفر زلاته قبل أن يطلب الصفح، أن يؤمن أن الحب ليس امتلاكًا، بل احتواء، ليس قيدًا، بل جناحًا يحملك حين تعجز عن السير.
الحب الحقيقي ليس موسمًا يأتي ويذهب،
بل مناخٌ تسكنه الروح للأبد، يبهت شكله أحيانًا، لكن جوهره لا يموت.
هو أن تبقى وفيًا وإن ابتعدت، أن تدعو لمن أحببت حتى بعد أن غاب، أن تتمنى له فرحًا ولو في حضن غيرك، لأنك أحببته لله، لا لحظّك منه.
قالوا: الحب وجع.
وأقول: بل هو شفاء الوجع، هو البلسم الذي يعيد الحياة إلى ما مات فينا من أحلام، هو السرّ الذي به نسامح، وبه نؤمن، وبه نستمر.
فالحب ليس ضعفًا، بل أقوى أنواع القوة، قوة أن تبتسم رغم الخذلان، أن تُكمل رغم الفقد، أن تُحبّ من جديد رغم وجع قديم.
في نهاية الطريق، نكتشف أن الحب لم يكن شخصًا نبحث عنه، بل قيمةً زرعها الله فينا كي نعرفه من خلالها.
نُحب لنتعلم الرحمة، ونُغفر لنتقن الصفح، ونُضحّي لندرك أن العطاء حياة.
فكل حبٍّ خالص هو طريق إلى الله، وكل قلبٍ أحبّ بنقاءٍ، نال بركة الوجود.
الحب يا صديقي…
هو أن ترى وجه الله في وجه من تحب.
هو أن تهدي روحك، وتبقى مبتسمًا، أن تحيا به، وإن متّ من أجله، لأننا نحيا بالحب… ونموت بالحب…
ولا نُختصر في الكلمات، بل نُروى في القلوب التي صدقت.





































