ما زلت أتعرف إلى نفسي،
وكأن عمري—وقد تجاوزت الثامنة والثلاثين—لم يكن كافيًا لأرى وجهي الحقيقي.
كنت أظن أنني أعرفني… أعرف ضعفي وقوّتي، وترددي وثورتي، لكن اتضح أنني لم أرَ سوى الصدى… صدى ما قاله الناس عني، لا ما كنت أُخفيه عن نفسي.
كنت أساير العالم كي لا أجرح أحدًا، وأتراجع خطوة كي لا أخسر أحدًا، وأصمت عن حقي لأن الجدل ينهك روحي، وأرتكب ما أعلم أنه ليس طريقي… فقط لأن الخوف من الخسارة كان أقوى من قدرتي على المواجهة.
وهكذا… وجدتني أبتعد عن نفسي قليلًا قليلًا،
حتى استيقظت يومًا ولم أتعرف على الرجل الذي كان يقف في داخلي.
وحين عدت إلى نفسي…
عدتُ كما يعود غريب إلى بيته بعد غياب طويل، يمسح جدار قلبه بيدٍ مرتعشة،
ويرى التشققات التي أخفاها عن نفسه سنوات.
لم أرفع الستار أمام أحد، لكنني اضطررت أن أرفعه أمام الله…
أن أتمتم بصوتٍ لا يسمعه غيري:
إن شيئًا في داخلي لم يكن بخير.
هناك… في تلك اللحظة،
فهمت أن الطريق يبدأ من سجدة صادقة،
ومن دمعةٍ لا يراها بشر، ومن اعترافٍ بينك وبين الله أنك تائه، وأنك تحتاج هدايته قبل أي يدٍ أخرى.
وحين اقتربت منه…
هدأت معركة قديمة في صدري، وكأن الرحمة التي طالما طلبتها كانت تنتظر أن أنحني لألتقطها.
ومع ذلك… أدركت أن الإنسان لا يشفى وحده، فالجرح العميق يحتاج عينًا خبيرة تعرف أين تبدأ، وصوتًا هادئًا يُعيد ترتيب الفوضى، وروحًا مهيأة لتلمس الأعماق المظلمة وتخرج منها ما كاد أن يُفلت.
كان هناك من يرشدني، يفتح لي أبواب المواجهة خطوة خطوة، يدلني على طرق السلام الداخلي التي لم أرها من قبل،
ويعلمني أن الاعتراف بالضعف لا يُنقص من قوتي، بل يمنحني بداية للشفاء الحقيقي.
ورغم كل هذا…
لم أفقد حبي للناس، ولم تنطفئ رغبتي في الخير لهم.
ابتعادي لم يكن جفاءً ولا ثقلًا، بل كان بحثًا عن مساحة أتنفس فيها دون أن أؤذي أو أُؤذى، وكأنني أقول للعالم:
"قلبي لا يحمل ضغينة، لكنه متعب… ويريد أن يعود لنفسه أولًا".
أصبحت أخشى خسارتي لنفسي أكثر من خوفي من خسارة أحد، وأصبحت أرى حقي بعيني لا بأعينهم،
وتعلمت أن الصدق—مهما كان ثمنه—أخف على الروح من حمل الأقنعة،
وأن السلام يأتي حين تتوقف عن مجاملة جراحك، حين تعترف بالخطأ الذي ارتكبته من حب أو خوف أو رغبة في تجنب جدال،
حين تتوقف عن تبرير الفعل لنفسك أو للآخرين، وتترك قلبك يتحرر من عبء ما لم يُحل.
والآن…
أسير بخطوات هادئة لا يسمعها أحد،
أرمّم روحي كما يُرمَّم بيت يعود إليه صاحبه بعد هجر طويل، وأؤمن أنه في نهاية هذا الطريق…
سأجد نفسي،
الرجل الذي كنت أبحث عنه…
والذي لم يخذلني حين عدت إليه.





































