ثمة أشياء لا تُرى بالعين، بل تُستشعر بالقلب، وتُقرأ في ما وراء الكلمات.
قد يمرّ بك الكثير، يبتسمون لك، ويصافحونك بحرارة، لكن ما أكثر البرود المختبئ خلف دفء الأيادي، وما أصدق من قال إن الأرواح تُفضح بالنوايا لا بالأقوال.
لا أدّعي أنني أفهم كل البشر، فالبشر بحر لا قرار له، فيهم الغارق في ذاته، وفيهم العابر على شواطئ الآخرين دون أن يترك أثرًا.
لكن، من التجارب ووجع الدروس، اكتسبت بصيرة تُمكّنني من التفرقة بين النور والظل، بين من يُحبك لذاتك، ومن يراك وسيلةً لبلوغ غاية.
رأيتُ أن الناس نوعان، بل عالمان متباينان يسكنان الأرض ذاتها.
أحدهما يُحبك حبًّا خالصًا لله، حبًّا لا تشوبه منفعة، ولا تشوّهه مصلحة، حبًّا يشبه النسمة التي تمرّ على قلبك فتبرده دون أن تطلب منها شيئًا.
هؤلاء إن غابوا، يبقون، لأن أثرهم لا يُمحى، يتركون فيك بصمة دفء، وأمانًا يشبه ضوء الفجر بعد ليلٍ طويل.
أما النوع الآخر، فهم أولئك الذين يأتونك حين يحتاجونك، ويغادرون حين تُقضى حاجتهم.
يطرقون بابك لا لأنهم يشتاقون، بل لأن في حضورك غايةً يريدونها.
ومع ذلك، لا تكرههم، ولا تغلق الباب في وجوههم، فإن الله قد ساقهم إليك لتقضي لهم حاجة، وجعل منك سببًا في قضاء أمرٍ ربما دُوِّن في لوح القدر منذ الأزل.
كن لهم كما يكون الغيث للأرض القاحلة: يُنبت فيها الخير، ثم يرحل في صمتٍ دون أن ينتظر شكرًا أو امتنانًا.
واعلم أن المحبة الصادقة لا تُقاس بعدد اللقاءات، ولا بمدى القرب، بل بنقاء السريرة، وبالقلوب التي تدعو لك في الغياب دون مصلحةٍ أو انتظار مقابل.
فمن أحبّك في الله، أحبّ فيك جوهرًا لا يتغيّر بزمنٍ أو حال،
ومن أحبّك لمصلحة، فقد أحبّ ظلّك لا روحك، وصورتك لا حقيقتك.
وفي رحلة العمر، ستتعلّم أن لا تُحسن الظن بكل يدٍ تُصافحك، ولا تسيء الظن بكل من ابتعد،
فبعض البُعد وفاء، وبعض القرب تمثيل.
سيُريك الله من الناس ألوانًا، حتى تفهم أن الحكمة ليست في معرفة من يحبك، بل في أن تُحب الخير للجميع، وتُبقي قلبك نقيًا رغم ما رأيت.
لكن بين كل هذا، ستكتشف أن العلاقات ليست دائمًا نقية كما تبدو، وأن الطيبة لا تُقدّر في زمنٍ يعبد المصلحة.
الطيبة ليست ضعفًا كما يظن البعض، بل هي صفاءُ قلبٍ أدرك أن القسوة لا تُورث راحة.
إلا أن هناك فرقًا دقيقًا بين الطيبة والسذاجة،
فالطيبة وعيٌ رفيع يجعل قلبك يختار الخير رغم مرارة الخذلان،
أما السذاجة فهي أن تُسلّم نفسك لكل من يبتسم لك، وأن تبرر الإساءة بحجة “النية الطيبة”.
الطيبة لا تعني أن تُسامح من استغلك ثم تعود إليه كأن شيئًا لم يكن،
ولا أن تُبرر غدر الآخرين بحسن ظنك بهم.
بل أن تملك قلبًا نقيًا، وعقلًا واعيًا يحميه.
أن تُحب، لكن دون أن تُستغل؛ أن تُعطي، دون أن تُستنزف.
لا أكره أحدًا، لكنني لا أرتاح لمن يستغل نقائي،
ولا أستطيع التعامل مع من يرى في طيبتي فرصةً لاختبار حدودي.
لا أكره البشر، لكني أكره من يجعل من صدقي ضعفًا، ومن تسامحي سذاجة.
لقد تعلمت أن أغفر، لكن لا أُعيد،
أن أبتسم، دون أن أفتح الأبواب ذاتها التي دخل منها الخذلان.
فلتكن كالنخلة، يُرمى بالحجر فتُسقط تمرًا،
ولْتكن كالنبع، مهما شربوا منك وبخلوا عليك بالماء، تفيض بالعطاء من ذاتك.
واعلم أن الله يمتحن قلوبنا بالبشر، فمنهم من يكون جسرًا للخير، ومنهم من يكون درسًا للحذر.
وفي نهاية المطاف، لا تندم على معروفٍ صنعته، ولا على قلبٍ احتضنته،
فكل جميلٍ تفعله سيرتد إليك يومًا في صورةٍ لم تتخيلها.
وربّ دعوةٍ خرجت من قلبٍ غريبٍ سقاه الله على يديك،
كانت هي مفتاح فرحك حين ضاقت بك السبل.
فامنح الحب، وازرع الخير،
ولا تنتظر من الناس عدل الميزان،
فالله وحده يُعيد للقلوب ما تستحق،
وهو وحده الذي لا يخذل الطيبين مهما أساء بهم الظن هذا العالم.
وفي الختام…
تذكّر دائمًا أن النقاء لا يُقاس بعدد من فهموك، بل بقدرتك على البقاء صافيًا رغم من لم يفهموك.
أن تظل طيبًا في عالمٍ مُتعب، هو أرقى أنواع القوة.
كن أنت النور، وإن أحاطك العتم،
فالله لا يخذل من أضاء القلوب، ولو احترق كي يُنيرها.





































