هناك لحظات في العمر يزدحم فيها العالم حول روحك كأن الكون كلّه انحنى ليختبر قدرتك على الاحتمال؛ لحظات تشعر فيها أن الأصوات تتحول إلى مطارق خفية، وأن النظرات تتكاثر عليك كأنها تريد قراءة ما لم تبح به يومًا. كلمات الناس تهبط على صدرك كغبارٍ رماديّ، خفيف في شكله، ثقيل في أثره، يعلّق نفسه على أضلاعك حتى يكاد يطفئ ما تبقى من نبض.
وفي وسط هذا الزحام، تكتشف أنك أصبحت أشبه بظلٍّ يسير خلف الآخرين لا خلف ذاته، وأنك تقدّم روحك يوميًا كقربانٍ لتوقعات لم تُخلق لك… فتبحث عن فتحة ضوء، عن ممرّ صغير يسمح لروحك أن تتنفس.
وفي أعماق هذا الضيق، يتولد صوت داخلي—هادئ، لكنه لا يشبه أي هدوء آخر—صوت يقول لك:
“أنت لا تحتاج أن تكون كما يريدون… فقط كن كما تحتاج أنت لتكمل.”
“لا بأس إن خذلت ظنّهم… طالما لم تخذل نفسك.”
“وليس كل صمت ضعفًا؛ أحيانًا يكون الصمت آخر ما تبقى لك من قوة.”
ومن هذا الصراع الخفي يولد فن اللامبالاة… لا كبرودٍ ولا كجفاء، بل كحكمة تُنقذ بها نفسك من الغرق. يظهر كنافذة تُفتح في غرفة تراكمت فيها رطوبة السنوات، فيدخل منها هواء نقيّ ينعش ما ظننته مُنهكًا للأبد.
اللامبالاة ليست انطفاء… بل إضاءة لزاوية كنت تهملها في قلبك.
وليست جفاء… بل حماية لذلك الجزء الطريّ منك الذي لم يعد يحتمل أن يُقلَّب في أيدي الآخرين كشيءٍ بلا قيمة.
فن اللامبالاة هو أن تتعلم كيف تترك ما يثقل كاهلك دون خوف من الفراغ بعده، وأن تتجاوز الأشخاص الذين امتصّوا وهجك كما يمتص الرمل قطرات المطر. هو أن تدرك أن الضجيج ليس حقيقة، وأن الكثير من العلاقات مجرد محطات عابرة لا ينبغي أن تبني بجوارها بيتًا لقلبك. وأن معظم ما كنت تخشاه… لم يكن يستحق حتى الالتفات.
هو أن تعرف أن رأي الناس موجة تأتي وتذهب،
وأنك لست حجرًا تفرض عليه الأمواج شكلها.
هو أن تقف في منتصف عاصفتك الخاصة، لا مُنهزمًا ولا مُنتصرًا، بل واعيًا… تعرف ما يخصك وما هو مجرد صدى يتلاشى إذا لم تتبعه بعينيك.
وفي كل خطوة على هذا الطريق، يعود الخطاب الداخلي ليهمس لك:
“توقّف عن حمل أعباء ليست لك… لا أحد سيكمل الطريق بدلًا منك.”
“لا تخف الرحيل الأوّل؛ أحيانًا يكون أول خطوة للعودة إلى نفسك.”
“ومن أرادك حقًا… لن يرهقه أن يقترب.”
وتعلّم اللامبالاة يشبه قطع الحبال التي ربطتك طويلًا بتصورات ليست لك.
تحرر نفسك من عادة إسعاد الجميع حتى لو احترقت.
من علاقة حاولت إنقاذها وحدك لأنك كنت تخشى الفقد.
من كلمات ابتلعتها كي لا تُغضب شخصًا لا يبذل نصف ما تبذله.
ثم تدرك فجأة أن الأشياء التي كنت تخاف خسارتها… هي التي كانت تخسرك كل يوم.
وفن اللامبالاة لا يعني قلبًا خاليًا من المشاعر؛
يعني قلبًا يعرف قيمته.
يعني أن تحب بعمق دون أن تصبح مستهلكًا.
أن تمنح دون أن تتحول إلى أرضٍ يزرع فيها الناس مواسمهم ويرحلون.
أن تهتم، لكن بقدرٍ يحفظ اتزانك، لا بقدرٍ يستنزفك.
ومع الوقت، ستعرف أن السلام الحقيقي لا يأتي من الخارج، بل من الهدوء الذي يولد حين تتخفف من ثِقل توقعات الآخرين. ستدرك أن صوتك الداخلي يعود أقوى، وأن خطواتك تصبح ثابتة، وأنك أخيرًا تمشي في طريق يشبهك… لا الطريق الذي فُرض عليك.
اللامبالاة ليست جدارًا يفصلك عن العالم، بل جسرًا يعيدك إلى نفسك.
هي إعلان شجاع بأن عمرك ثمين، وأن قلبك ليس ساحةً لحروب الآخرين، وأنك لم تُخلق لتحمل على ظهرك أوزانًا وضعها الناس دون أن يسألوك.
وعندما تصل إلى هذه المرحلة، ستعرف أنك صرت أقوى…
ليس لأنك توقفت عن الشعور، بل لأنك كففت عن تقديم نفسك قربانًا لكل شعور عابر.
وصرت أوعى…
ليس لأنك ترفعت، بل لأنك اختبرت كل شيء وعرفت ما يستحق أن يبقى وما يستحق أن يُترك.
وصرت أصدق مع نفسك…
لأنك أخيرًا منحتها ما لم يمنحه لها أحد: الحماية، والطمأنينة، والاحترام.
وفي النهاية، ستدرك الحقيقة التي يغفل عنها الكثير:
أن اللامبالاة ليست قسوة… بل نعمة.
وأن التجاهل أحيانًا أرقى أشكال الحضور.
وأن اختيار نفسك ليس تخليًا عن أحد…
بل استعادة لما ضاع منك في منتصف الرحلة.
هذه هي القوة الحقيقية…
أن تمشي في الحياة خفيفًا كأنك تحمل السماء داخلك،
حرًا كمن عرف قيمته،
ثابتًا كمن أدرك أخيرًا أن لا أحد يستحق أن يأخذ منه شيئًا…
إلا بإرادته.






































