هناك لحظات لا تُكتب بالحبر، بل ترتجف لها الروح كما لو أن الحياة نفسها توقفت فجأة لتراقبك. لحظات يقف فيها الإنسان أمام نفسه بلا أقنعة، فيتعثر بصدقٍ لم يكن مستعدًا لاستقباله. وفي تلك اللحظة الغريبة—لحظة انكشافٍ يأتي بلا سابق إنذار—يشعر المرء وكأن الكون كله يثقل صدره، وكأن كل دمعة لم تُسكب بعد تبحث عن طريقها بين أضلاع قلبه. يتوهم أنه أشدّ الناس وجعًا، وأعمقهم جرحًا، وأكثرهم انكسارًا… حتى يقترب قليلًا من وجوه الآخرين، ويصغي لوجعٍ لم يكن يتخيله، فيدرك أن الألم ليس حكرًا عليه، وأن الحياة—بقسوتها—قسّمت البلاء بين الناس بما لا يُحصى، وأن ما اعتقد أنه نهاية، ليس سوى جزء من الحقيقة.
كنت أظن أنني وحدي أحمل أثقالًا لا ينهض بها بشر، أن دقات قلبي المثقلة بالهموم ليست كدقات غيري، وأن حزني له لونٌ لا يشبه سواه. كنت أظن أن الليل كله يراقبني بعين حادة، وأن كل دقيقة تمر عليّ تزيد من ألمي… حتى لم أعد أميز بين ما هو حقيقي وما هو وهم. كنت أحمل الظلام في صدري وكأنني آخر البشر على الأرض، حتى ظننت أن الله نسيني.
لكن شيئًا ما يحدث حين يفتح الإنسان نافذة على أرواح لم يعرفها من قبل. حين يسمع أنينًا خرج من صدورٍ حاولت طويلًا أن تبدو صلبة، لكنه كان كقطرات المطر تسقط على وجه عارٍ، تكشف كل ما خبّأه الليل. حين يرى كيف يبتسم البعض رغم الخراب الذي يسكن خلف أعينهم، وكأنهم يخفون جهنم داخل صدورهم ليبقى العالم هادئًا. عندها يتغير كل شيء… يكاد قلبك يتوقف عن النبض خجلاً من اعتقاده أنه الأشد ألمًا، ويكتشف أن كل ما كان يظنه نهاية كان مجرد وهم صغير مقارنة بما يتحمله الآخرون بصمت.
هناك أصوات… حين تسمعها، تنكمش روحك خجلًا. ليست لأنها موجوعة أكثر منك، بل لأنها تحارب بلا سلاح، وتنهض كل يوم من رمادٍ لا يعرفه أحد، من جرحٍ لم يعد له أي أثر في نظر العالم، لكنه لا يزال حيًا في صدورهم. هناك قلوبٌ مكسورة بطريقة تجعل قلبك، بكل ما حمله، يبدو سليمًا، وكأنك كنت تعيش في وهم أن الألم وحدة. هناك حكايات لو سُميت لارتجف لها الليل بأسره، ومع ذلك يبتسم أصحابها ليخففوا عن الآخرين، وكأنهم يخفون كارثة داخل صدورهم لتبقى الحياة صامتة.
يا الله… كم نعيش في نعم لا نشعر بها.
نحمل القليل فنظنه كثيرًا، ونغفل عن الكثير الذي يعيش معنا كأنه أمرٌ عادي.
ننظر إلى جراحنا بالمكبر، وننسى أن هناك من ينزف بلا ضماد، تحت أقدام الحياة الصامتة.
نظن أن الحياة ضاقت علينا وحدنا، بينما آخرون يقفون على أطراف الهاوية ويبتسمون… ويقولون: “سأكمل… حتى لو لم يبقَ شيء يدفعني.” وكم من مرة ظننت أن قلبي ينهار، بينما هناك من انهار آلاف المرات ولم تتوقف الحياة عنده.
كم مرة بكينا على همٍّ كان أصغر مما ظننا؟
وكم مرة زادنا الألم عمًى بدل أن يجعلنا نرى؟
وكم من نعمة، نعيش داخلها، نحسبها حقًا من حقوقنا، لا فضلًا من الله؟
كم من لحظةٍ، لو توقفنا فيها قليلًا لندركها، لكانت دموعنا أطهر وأعمق مما تراه عيوننا الآن؟
كم من قلبٍ يعيش في نعيم صامت، بينما نحن نعتقد أن العناء وحده قدرنا؟
في تلك اللحظة التي تسمع فيها وجعًا ليس وجعك… تنكسر داخلك أبواب كثيرة. تشعر بثقلٍ في صدرك لا يشبه الحزن، بل يشبه الاعتذار: اعتذارًا منك لنفسك لأنك لم ترَ نعمك، واعتذارًا لله لأنك نسيت فضله، واعتذارًا للناس لأنك لم تدرِ كم يقاسون وهم لا يقولون شيئًا. وكأنك فجأة تفهم أن كل نفسٍ تتنفسه هو فضل لم تستحقه، وكل شعور بالأمان هو هدية لم تقدرها. وكأن العالم كله يهمس لك: “أنت بخير، رغم كل شيء.”
يا لرحمة الله التي تُلبسنا نعمًا نظنها عادية…
يا لكرمه الذي يُحيطنا بأمان لا نراه…
يا لستره الذي يغمرنا حتى نظن أننا نحن من صنعناه…
ومع كل هذا الإدراك، ومع كل دمعة ذُرفت في صمت، يبدأ الإنسان شيئًا فشيئًا أن يرى الطريق أمامه. ليس طريقًا خالٍ من الألم، لكنه طريق يُعلِّم القلب الصبر، ويُعلّم الروح كيف تنهض بعد كل سقوط، كيف تلمس القوة في أضعف لحظة، وكيف تتحول الدموع إلى نور يضيء داخلك. تبدأ الخطوات الصغيرة تصبح كبيرة، والوجوه التي تسمعها تصنع لك أملًا جديدًا، والقصص التي تعيشها تعلمك أن الاستمرار ليس خيارًا… بل حياة تُستحق.
وفي كل جلسة جديدة، وفي كل نفسٍ يُعطى لوجعك، تتعلم كيف تُصغي أكثر لنفسك، كيف تهتم بها، وكيف تحبها بما تستحق. تعلم أن لكل ألم حكاية، ولكل صمت معنى، ولكل مرة تنهض فيها بعد أن شعرت بأنك لن تستطيع، هناك جزء منك يُشفى ويكبر في ذات الوقت. وهكذا، مع كل جلسة ومع كل خطوة، يصبح التعافي ليس حلمًا بعيدًا، بل حقيقة تُصنع بصبرك وصدقك مع نفسك، ويصبح قلبك أقوى، وروحك أكثر هدوءًا، وعينك ترى النعم التي كانت مخفية طوال الوقت.
وفي نهاية هذا الإدراك، وفي اللحظة التي تكاد الروح تخرج من الجسد، يخرج الإنسان مختلفًا. ليس أكثر قوة… بل أعمق امتنانًا. ليس أشد صلابة… بل أهدأ قلبًا. يعود إلى حياته بذات الأعباء، لكنه يحمل رؤية جديدة: يرى ما لم يكن يراه، يشعر بما لم يشعر به، ويعلم أن دمعة واحدة صادقة من القلب كافية لتصفية كل ما ثقل داخله، وأن البكاء أحيانًا هو لغة النعم التي لم ندركها.
وهكذا… حين ننصت لوجع غيرنا، نفهم أنفسنا.
وحين نرى جراح العالم، نلمس نعمتنا.
وحين نكتشف أن ما يثقلنا كان يمكن أن يكون أضعافًا، نذرف دمعة ممتنة، ثم نرفع الرأس نحو السماء ونقول:
يا رب… لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك… ولك كل الشكر على ما لم نعد نراه، وما لم نكن نعرفه من قبل.
ومع كل هذا، يدرك القلب شيئًا واحدًا بوضوح: أن الاستمرار، التعلم، والمضي قدمًا في رحلة التعافي ليست رفاهية… بل ضرورة. وأن كل خطوة، مهما كانت صغيرة، هي شهادة على القدرة على النهوض بعد الانكسار، وعلى حب الحياة رغم الألم. ومع كل جلسة، ومع كل نفسٍ يُعطى للحياة، يثبت الإنسان لنفسه أنه قادر على الاستمرار، وأن النور الذي ينبعث من الداخل لا يمكن لألم أن يخمده.





































