هناك لحظات يقف فيها الإنسان أمام نفسه مجردًا من كل ادّعاء، يحدق في مرآة روحه بصدقٍ لم يجرّبه من قبل، فيكتشف أن الحقيقة ليست فيما نراه في الآخرين؛ بل فيما نخفيه نحن عن أنفسنا.
فأكثر ما يربي الإنسان… سقطة لم يتوقعها،
وذنب وجد نفسه فيه يومًا، وساعة ضعف كانت كفيلة بأن تُسقط كل أحكامه على الناس.
لست قاضيًا على أحد،
ولا أملك مقامًا يجعلني أرفع إصبعًا على ذنبِ بشرٍ يشبهني.
أنا مثلهم… بل ربما أقل منهم، وفي داخلي من العثرات ما يكفي لأدرك أن الطريق إلى الله ليس طريقًا مستقيمًا دائمًا…
بل هو طريق نتعرّف فيه على هشاشتنا قبل قوتنا، وعلى فقرنا قبل صلاحنا.
كنتُ يومًا أنظر إلى بعض الأفعال بدهشةٍ وشيء من الاستنكار، كأن قلبي يظن نفسه بعيدًا، كأنني مُحصن من الوقوع فيما يقع فيه الآخرون.
لكن حين نظرت داخلي جيدًا، اكتشفت أنني فعلت ما لم أكن أتخيله يومًا، وأنني لست أفضل من أحد، وأن كل خطوة نجوتُ فيها لم تكن بقوتي، بل لأن الله صرفني عنها بلطفٍ لم أكن أهلاً له.
قال تعالى:
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا}
تذكّرت هذه الآية، ففهمت أن النجاة ليست ذكاءً، ولا قوة إرادة، وأن الثبات لا يُشترى،
بل يُمنح.
وكلما رأيت مذنبًا، قلت في سري: رحم الله ضعفه، ورزقني وإياه توبة لا رجعة بعدها.
فما يدريك!؟
ربما هو عند الله أقرب، وربما ذنبه يكسره فيصبح به أنقى مني ومنك، وربما نظرتي المتعالية هي الخطيئة الحقيقية.
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:
"من عيَّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله".
وكأن الحديث يضع اليد على الحقيقة المؤلمة:
أن احتقار الذنب قد يكون بوابة السقوط فيه.
وكم من مرة ابتلانا الله بما كنا نستهين به
لننظر إلى أنفسنا بصدقٍ ننساه كثيرًا.
تعلمتُ أن الهداية ليست ملكًا لأحد، وأن المعصية لا تنتزع من إنسان قيمته عند الله،
وأن القلوب تتقلب، والدروب تتبدل، وأننا جميعًا نمشي فوق أرض واحدة اسمها: الضعف البشري.
لذلك…
لن أحكم على أحد،
لن أقف فوق جراح البشر لأُصدر رأيًا،
ولا فوق زلاتهم كي أبدو أنقى.
يكفيني أنني حين فتشت في نفسي
وجدت ما يجعلني أنحني خجلًا قبل أن أرفع صوتي على أحد.
والفارق بيني وبين من رأيته يومًا يسقط،
ليس قوة… بل ستر.
ليس صلاحًا… بل عفو.
وليس عصمة… فالعصمة رُفعت يوم انقطع الوحي، وما نحن إلا بشر تتقاذفنا الرحمة حين يشاء الله.
وأيقنت أخيرًا…
أن أجمل ما يمكن أن يصل إليه الإنسان
أن يتواضع…
أن يرحم…
أن يغفر..
وأن يقول في نفسه قبل لسانه:
"اللهم ثبّت قلبي، وارحم ضعفي، واجعلني ممن يسترون لا ممن يُدينون".





































