كأن الحقيقة ليست ضوءًا دائمًا… أحيانًا تظهر كشرارةٍ تُحرق يديك بدل أن تنير طريقك. شيءٌ ما في هذا العالم يعلّمنا أن المعرفة ليست دائمًا بابًا، بل قد تكون نافذةً تُطلّ على وجعٍ لم تطلب رؤيته، وتفتح في القلب أسئلة لا يغلقها الليل. هناك لحظات نشعر فيها أن كل ما عرفناه لم يكن ينبغي أن نعرفه… وأن بعض الأبواب كان يجب أن تبقى موصدة، حتى وإن أغرتنا أصواتها من بعيد.
أؤمن أن للجهل نعمةً خفيّة لا يدركها إلا من ذاق مرارة الكشف.
فبعض الحقائق ليست هدايا، بل سكاكين مغلّفة بالكلام المهذّب؛ تبدو لامعة من الخارج، لكنها تقطعك حين تلمسها. في كل معرفةٍ عميقة جزءٌ من الخسارة، كأنك كلما اتسعت رؤيتك ضاق قلبك أكثر، وكلما انفتح أمامك بابٌ انغلقت في داخلك نافذة لا يعلم أحد بها.
وحين نقف أمام مفترق بين أن نعرف أو نُغمض أعيننا، لا يكون الخيار سهلًا كما يظن الآخرون… بل كأنك تختار بين نارين؛ نار تُصهر قلبك بمعرفةٍ ثقيلة، ونار تُبقيك تتخبط في ظلامٍ أقلّ قسوة. والظلام أحيانًا أرحم من الضوء، لأن الضوء يكشف لك ما كنت تتمنى لو ظل مجهولًا… يكشف الوجوه، والمقاصد، والخيبات الصغيرة التي تتراكم كالتراب فوق الروح.
أحيانًا تأتي الحقيقة متأخرة، كضيفٍ لم يُدعَ، يطرق الباب بعنفٍ ويقتحم الذاكرة دون استئذان، يجرّ وراءه كل شيء كنت تحاول نسيانه.
وأحيانًا تأتي مبكرًا جدًا، قبل أن تقوى روحك على حملها، فتصبح عبئًا تتعلّق بظهرك كلما حاولت النهوض.
وتظلّ أنت بينهما، لا تعرف هل كانت المعرفة ضرورة… أم كانت لحظة ضعف فتحت فيها يدك لسهمٍ طائش.
ولعلّ أغرب ما في الأمر… أننا لا نعرف أي الطريقين أكثر إنصافًا لنا:
أن نحمل الحقيقة كاملة حتى لو هدّمت جزءًا منّا؟
أم نكتفي بجهلٍ يحمينا من السقوط، ويُبقي في قلوبنا مساحةً لا تسكنها الحسرة؟
فبعض التفاصيل حين نعرفها تغيّر شكلنا من الداخل، تزرع خطوطًا لا تُرى على ملامح الروح، وتجعلنا نتجنب أماكن كنّا نحبها، وأشخاصًا كنّا نظن أننا نفهمهم.
إن المعرفة تشبه البحر؛
مَن يقترب من سطحه يرى لمعان الموج فقط،
ومَن يغوص فيه يسمع صراخ الأعماق، ويرى ما لا يجب أن يُرى.
والجهل ليس ضعفًا كما يصوّرون… بل قُبّة زجاجيّة، تُبقي الريح خارجًا، لكنها لا تمنع الضوء من الدخول.
إنه نوعٌ من الحماية… حماية من التفاصيل التي لا تقدّم شيئًا سوى ثقلٍ لا يوصف.
قد نحتاج أحيانًا إلى ألّا نعرف، إلى أن نترك الأشياء ناقصة قليلًا، غامضة قليلًا، فالغموض ليس دائمًا عدوًّا… أحيانًا يكون صديقًا يحفظ لك ما تبقى من هدوئك. فإن الاكتمال قد يحمل من الفقد ما لا يحتمله القلب، والوضوح الزائد قد يكشف وجوهًا كنا نفضّل لو بقيت في الظل.
ولذا… لا أدري حقًا أيهما أفضل:
أن نعرف ويضيق صدرنا؟
أم نجهل ونتنفس بعمق؟
كل ما أعرفه أن بعض الحقائق تستحق أن تُفتح،
وبعضها إن فتحتها…
لا تُغلق بعدها أبدًا.





































