هناك حروب لا تُسمَع أصواتها، ولا تُرى دماؤها، ولا تُرفع فيها رايات النصر… لكنها تشتعل في أعماق الإنسان كل يوم.
حروب يخوضها المرء مع نفسه، مع خوفه، مع القلق الذي ينهش قلبه في منتصف الليل، ومع العالم الذي لا يترك له فسحة ليلتقط أنفاسه. وهذا — بلا مبالغة — هو أشدُّ جهادٍ في هذا الزمن.
أن تبقى مُتماسكًا بينما كل شيء من حولك يتداعى، أن تظلّ وفيًّا لنقائك رغم كثافة الغبار في الطرق، أن تواصل السير بينما روحك منهكة…
هذا جهادٌ لا يُشعر به إلا من عاشه.
لقد كتب أحمد خالد توفيق يومًا عبارة تُشبه الحقيقة تمامًا:
"أصعب معركة تخوضها هي أن تبقى كما أنت".
ويبدو أن هذه ليست مجرد كلمة، بل خلاصة حكمة من عرف كيف يُقاتل كي لا يفقد نفسه.
في زمنٍ يسرق فيه العالم صمتك، وتشتتك المقارنات، وتُثقل قلبك الأخبار، لم يعد الحفاظ على الثبات رفاهية… بل مقاومة. مقاومة أن تظلّ طيبًا دون أن تُستغل، قويًا دون أن تتخشّب، متواضعًا دون أن تُمحى، وحقيقيًا دون أن تُشوَّه.
أشدُّ جهادٍ الآن هو أن تقف أمام مرآتك دون أن تخجل من انعكاسك، أن ترى ضعفك ولا تهرب منه، أن تعترف بجرحك دون أن تستسلم له، أن تسمح لنفسك أن تبكي ثم تمسح دمعتك وحدك وتنهض.
الجهاد الحقيقي هو أن تتصالح مع فكرة أنّك لن تكون كاملًا، وأن النقص ليس فضيحة… بل دليل حياة.
أن تتعلّم كيف تُعيد ترتيب روحك كل ليلة،
وكيف تقول “لا” حين يتطلّب الأمر، وكيف تبتعد عن كل ما يشوّهك ولو أحببته؟.
إنها معركة الصمت…
المعركة التي لا تُرى، ولا يسمع أحد صراخك فيها، لكنها تُعلّمك معنى الثبات، وتحوّلك تدريجيًا إلى نسخة أكثر وعيًا وصلابة مما كنت تتوقع.
ولعلّ أبلغ ما في هذا الجهاد أنه لا يحتاج جمهورًا، لا ينتظر تصفيقًا أو ثناء،
لا يشتهر به صاحبه، ولا يُكتب في سطرين على منصات التواصل…
إنه جهاد النوايا الخالصة، الذي يخوضه الإنسان ليبقى قلبه حيًا رغم كل محاولات العالم لإطفائه.
أشدُّ جهادٍ يبذله المرء اليوم — حقًا —
هو أن يحفظ إنسانيته من التلوث، أن يحمي روحه من الجفاف، أن يبقى رحيمًا رغم قسوة الأيام، وأن يتمسك بملامحه الحقيقية حتى لا يصبح غريبًا عن نفسه.
هذا الجهاد وحده…
يكفي ليُثبت أنك أقوى مما تظن، وأجمل مما تتخيل، وأقرب إلى الله مما يظهر للناس.
وفي النهاية… يبقى أعظم انتصار يحققه الإنسان هو ألّا يسمح للحياة أن تُغيّر جوهره.
أن يخرج من معاركه أكثر وعيًا لا أكثر قسوة،
أكثر رحمة لا أكثر هشاشة، أقرب لنفسه لا أبعد عنها.
فالجهاد الحقيقي ليس في أن تهزم العالم،
بل في أن تنجو من العالم… دون أن تخسر نفسك.






































