ثمة أوجاع لا تُرى بالعين، لكنها تنخر القلب كما ينخر الصدأ الحديد.
الزعل ليس مجرد حالةٍ عابرة من الحزن، بل كائنٌ ثقيل يجلس على صدرك، يلتهم أنفاسك ببطء، يبدّل ملامحك، ويسرق من روحك شيئًا لا يعود.
الزعل هو الصمت حين يفيض الكلام، والانكسار حين لا يجد القلب من يفهمه، وهو الخوف من أن تُخطئ مرةً أخرى، فيمنحك قلبك أمانَه لمن لا يستحق، فيخذلك.
عشتُ وجعًا لم أظن أني سأحتمله يومًا، وجعًا علّمني أن الحزن لا يحتاج إلى دموع، بل إلى جسدٍ يتآكل من الداخل بصمتٍ طويل.
تجربة الفقد كانت صاعقةً لم أفق منها حتى الآن.
لقد رحل صديقي… لم يحتمل ما حدث، لم يحتمل الزعل، لم يحتمل وجع الروح الذي لا يُرى.
رحل تاركًا خلفه كل شيء، وكأنه قال للعالم: “كفى.”
كنتُ مثله، على الحافة ذاتها، على وشك السقوط في هاويةٍ لا نجاة منها، لولا أن الله أراد لي البقاء، لحكمةٍ لا أعلمها.
ومنذ تلك اللحظة، أدركتُ أن الزعل ليس ضعفًا، بل اختبارٌ قاسٍ لمدى احتمال الروح، وأنه قادرٌ على قتل الإنسان وهو ما زال يتنفس.
يبدأ الزعل همسًا صغيرًا في داخلك، ثم يكبر بصمت، حتى يُخمد صوت الفرح فيك تمامًا.
يُبدّد دفء العلاقات، يُطفئ الشغف، ويجعل الأيام رمادية لا لون فيها.
يُطفئك دون أن يراك أحد تذبل، لأنك تبتسم كي لا تقلقهم، بينما تنهار أنت من الداخل ببطءٍ مهذّب.
الزعل لا يؤذيك وحدك، بل يمتد كظلٍّ ثقيلٍ إلى من حولك.
حين تحزن، يتغيّر صوتك، تتغيّر نظرتك، حتى حضورك يصبح خافتًا.
تُغلق قلبك عن الآخرين خشية أن يؤلموك، فتظن أنك تحمي نفسك، بينما أنت تبني جدارًا من الوحدة حولك.
وحين يطول الزعل، يبهت الحب، ويختنق الصدق، وتتحول المودّة إلى غبارٍ لا يُمسك.
كم من علاقةٍ جميلة ماتت لأن أحدهم غضب ولم يتكلم!
وكم من قلوبٍ طاهرةٍ فقدت دفء الوصل لأنها لم تجد من يُطفئ نار الزعل بكلمةٍ طيبة أو عناقٍ صادق!
الزعل حين يُترك دون مصالحة، يتحول إلى فراقٍ أبدي.
هو تلك المسافة الصغيرة بين “سامحتك” و”وداعًا”، التي يختارها الغرور بدلًا من الحب.
تعلمت أن الزعل، إن لم تتجاوزه، يأكلك من الداخل، يأخذ منك طاقتك، شغفك، وحتى إيمانك بأن الغد أفضل.
وإن لم تُنقذ نفسك سريعًا، ستصبح أسير فكرةٍ واحدةٍ لا تُغادر رأسك: أنك كنت على حق.
لكن ما جدوى أن تكون على حق إذا خسرت قلبًا أحبك؟
تعلّمت أن هناك من يستحق أن نبتسم لأجله، أن نُطفئ غضبنا في حضرته، وأن نُضحّي بكبريائنا كي لا نخسره.
فبعض الأشخاص هم أوطاننا الصغيرة، والبقاء غاضبين منهم هو تشريدٌ لأنفسنا.
الزعل، إن طال، يجعلنا نرى الجميل قبيحًا، والمحب عدوًا، ويزرع فينا الخوف من القرب مرةً أخرى.
وحين يرحل أحدهم بسبب الزعل، نكتشف متأخرين أن لحظة الغضب تلك كانت أثقل من أن تُغتفر، وأن الاعتذار الذي لم يُقال، صار الآن بلا عنوان.
لقد رأيت بأمّ عيني كيف يميت الزعل.
رأيته في صديقي الذي لم يحتمل، في ملامحه قبل الرحيل، في صمته الذي كان يصرخ دون صوت.
رأيته في نفسي حين كدت أتبعه، لولا أن الله أبقاني لأتعلم أن الحزن، مهما اشتدّ، لا بد أن ينكسر عند حدود الإيمان.
أبقاني الله لأفهم أن الفقد ليس نهاية الطريق، بل بداية طريقٍ نحو فهمٍ أعمق لمعنى البقاء.
ومنذ ذلك اليوم، صرت أقول: لا تستهينوا بالزعل.
فما أكثر الذين ماتوا وهم أحياء، وما أكثر الذين رحلوا ولم يُودّعوا، لأننا ظننا أن الزعل شيءٌ عابر.
سامحوا… حتى وإن لم يُطلب منكم السماح.
ابتسموا لمن تحبون قبل أن يُغلق بينهم وبينكم القدر الأبواب.
اقتربوا ممن يبتعد، واسألوا عمّن صمت، فربما صمته استغاثةٌ لا تُقال.
الزعل يُميت، نعم، لكنه أيضًا يُعيدنا لأنفسنا إن أدركنا معناه في الوقت المناسب.
هو الذي يُذكّرك أن الكلمة الطيبة شفاء، وأن العناق أحيانًا أهم من كل تبرير، وأن الحياة قصيرةٌ جدًا لتُضيعها في الصمت والغضب.
واليوم، لا أزعم أنني تجاوزت، فما زال الحنين يسكنني، وما زال الفقد يرافقني كظلٍّ لا يفارق.
لكنني تعلمت أن أُسند نفسي بالله، أن أُعيد بناء ما تهدّم بداخلي بالحمد، وأن أثق أن كل وجعٍ له ميعاده في الرحيل، مهما طال.
تعلمت أن الزعل لا يجب أن يكون نهاية، بل درسًا، وأننا لا نخسر حقًا إلا حين نكفّ عن الحب.
فيا صديقي الذي غاب، لك الرحمة والسكينة، ولروحك الدعاء.
أما أنا، فما زلت هنا، أعيش لحكمةٍ لا يعلمها إلا الله، وأُردّد في سكون الليل:
الحمد لله على ما كان… وعلى ما سوف يكون.





































