تتلوّن العلاقات كلوحةٍ من المشاعر، لا تُشبه لوحةً أخرى، ولا يمكن حصرها في اسمٍ واحد أو تعريفٍ جامد.
فكل علاقةٍ هي عالمٌ صغير، تنبض فيه تفاصيل لا يراها إلا من عاشها، هي كالمطر حين يلامس الأرضَ لأول مرة؛ يثير الحياةَ في موضعٍ، ويغمر الحنينَ في موضعٍ آخر. العلاقات ليست صدفةَ لقاءٍ، ولا حوارًا عابرًا؛ بل امتدادٌ بين روحين التقيا على دربٍ لم يكن مرسومًا، فصنعا معنى لا يتكرّر.
قد تبدأ العلاقة بنظرةٍ خجولةٍ لا يلتفت إليها أحد، أو بمحادثةٍ بسيطةٍ لا تُنبئ بشيء، ثمّ تكبر في الصمت وتنضج على مهل، كزهرةٍ عنيدةٍ قرّرت أن تزهر في أرضٍ قاحلة. وحين يصدق الشعور، يتحول اللقاءُ العابر إلى نهرٍ يسقي القلبَ من العطش، وإلى مأوى نلجأ إليه حين يضجّ العالم من حولنا.
فما أروع العلاقات التي تولد من التفاصيل الصغيرة، تلك التي لا يخطط لها أحد، لكنها تخلق بصدقها حبًا ناضجًا لا يخبو مهما تقادم الزمن.
تُشبه العلاقات أحيانًا كتابًا تُقلّب صفحاته على عجل، لا تعرف إن كنت في المقدّمة أم في النهاية، لكنها تدهشك بجمال اللغة بين السطور، وبعضها كقصيدةٍ ناقصةٍ لا تكتمل إلا حين تضع فيها من روحك بيتًا جديدًا. وبين علاقةٍ تُشبه الغيم، تمرّ لتبلّل روحك ثم ترحل، وأخرى تُشبه الجذور، تمتدّ عميقًا فيك ولا تُرى، تتعدد الصور ويبقى الإحساس واحدًا: الحاجة إلى الأمان في قلبٍ يفهمك دون أن تتكلّم.
وفي المقابل، هناك علاقاتٌ تُشبه السراب، تلمع من بعيد وتغريك بالركض نحوها، فإذا بلغتَها وجدتَها خواءً لا يُروى. وهناك من يقترب منك لأنه يرى فيك مرآته لا ذاتك، فيُحبّ انعكاسه فيك لا حقيقتك. وبعض العلاقات كالظلال، ترافقك طالما كنتَ في النور، وتغيب حين يحلّ الظلام. تلك هي العلاقات التي تُعلّمنا أن الصدق لا يُقاس بالكلمات، بل بالثبات في الغياب.
لقد باتت العلاقات في زمننا هذا مسرحًا تتبدّل فيه الأقنعة بسرعةٍ تفوق تبدّل الوجوه. صارت الكلمات تُقال بنغمةٍ محفوظة، والوعود تُكتب بالحروف ذاتها على جدران مختلفة. ومع تسارع الوقت وازدحام الأيام، صار البعض يُحبّ خوفًا من الوحدة، لا رغبةً في المشاركة، ويقترب ليملأ فراغًا لا لُيمنح حضورًا. وهنا تفقد العلاقات جوهرها الأصيل، لأنّها حين تُبنى على الحاجة لا على الاختيار، تُصبح كبيتٍ من رمالٍ تنهار مع أول هبّة ريح.
وفي زمن السوشيال ميديا، تبدّلت ملامح العلاقات حتى كادت تفقد معناها الأصلي. صارت الأرواح تلتقي خلف الشاشات لا في العيون، وتُقاس المشاعر بعدد الإعجابات لا بصدق النبض. أصبحنا نُحب بالكلمات المكتوبة أكثر مما نحب بالوجود الحقيقي، نغار من التعليقات لا من العيون، ونُعلن الشوق في العلن بينما تخلو اللقاءات من الدفء. تحوّل الحب إلى منشورٍ مؤقت، والصداقة إلى حالةٍ تُضاف وتُحذف بلمسة إصبع، حتى غدت العلاقات الرقمية كفقاعاتٍ لامعةٍ في الهواء، تبهرك لحظةً وتختفي دون أثر. ومع ذلك، يبقى هناك من يستخدم هذا العالم الافتراضي ليُعبّر بصدقٍ عن مشاعرٍ لا يجد لها مكانًا في الواقع، فيُثبت أن التكنولوجيا لا تُفسد العلاقات بقدر ما تكشف هشاشتها.
ومع مرور الوقت، نتعلّم أن العلاقات ليست دوماً كما نحلم، وأن النضج لا يعني القسوة، بل يعني أن نختار من يستحق البقاء في محيطنا دون أن نحمل في قلوبنا حقدًا على من رحل. فالحياة لا تحتمل التعلّق المفرط، ولا العلاقات التي تُنهك أكثر مما تُنعش. النضج يعني أن ندرك متى نمسك، ومتى نترك، وأن نفهم أنّ بعض الرحيل نجاة، وبعض البقاء استنزاف. فليس كل من يُمسك بك يُحبّك، ولا كل من يرحل عنك يكرهك، فبعض الفُراق احترامٌ للذات قبل أن يكون خذلانًا من الآخر.
ومع ذلك، ما زال هناك أولئك الذين يُؤمنون بأن العلاقة ليست مجرّد وجودٍ حولك، بل دفءٌ يسكن داخلك. أولئك الذين يُصغون لنبضك لا لكلماتك، ويقرأون حزنك من بين السطور، أولئك الذين لا يرحلون حين تتغير الفصول، بل يظلون لأن وجودهم لا تحكمه الظروف بل القلوب. هؤلاء هم الذين يجعلون للعلاقات معناها الأسمى، ويُعيدون تعريف الحبّ بأنه فعلُ صبرٍ وصدقٍ لا ادّعاء.
بعض العلاقات تُشبه الغرس في أرضٍ عطشى، تبدأ ببذرةٍ صغيرةٍ لا يُعيرها أحد اهتمامًا، ثم تمتد جذورها في العمق دون أن تُحدث ضجيجًا، حتى إذا أزهرت، أبهرت كلّ من رآها. تلك العلاقات التي تولد من اهتمامٍ بسيط، من ابتسامةٍ غير مقصودة، من لحظة صدقٍ بين روحين، لتتحول مع الأيام إلى حبّ ناضجٍ يواجه العواصف، لا يهرب منها. هو الحب الذي لا يُعلَن في الضجيج، بل يُثبت نفسه بالثبات، وبالحنان الصامت الذي يملأ الفجوات دون أن يُقال.
العلاقات في حقيقتها ليست سوى مرآةٍ لما نحن عليه. فمن يحمل في داخله سلامًا، يُنبت حوله طمأنينة، ومن يحمل اضطرابًا، لا يُثمر إلا وجعًا. وما بين صدق النوايا وزيف الأقنعة، نكتشف مع الزمن أن البقاء ليس صدفة، وأنّ من يختار البقاء فيك رغم كلّ ما فيك، هو المعنى الحقيقي للحبّ.
وربما أجمل ما في العلاقات أنّها تمنحنا مرآةً نرى فيها وجوهنا من زوايا لم نعرفها من قبل. فهي تكشف ضعفنا، وتُظهر قوتنا، وتختبر قدرتنا على الغفران. ومن رحم الخذلان يولد الوعي، ومن عتمة الفقد ينبثق النور. فكل علاقة، مهما انتهت، تُضيف إلى أرواحنا درسًا جديدًا في فهم الآخر وفهم أنفسنا.
وفي النهاية، ليست العلاقات حربًا ننتصر فيها أو نخسرها، بل رحلة نكتشف عبرها ذواتنا، ونختبر اتساع قلوبنا وقدرتنا على البقاء إنسانيين في عالمٍ يميل إلى التبلّد. فبعض العلاقات تمرّ لتُوقظ فينا الإنسان، وبعضها ليمسح غبار الخذلان عن أرواحنا، وبعضها ببساطةٍ لتُخبرنا أن الحب، حين يكون صادقًا، لا يحتاج إلى أسباب، ولا يُشبه شيئًا قبله أو بعده.
وفي جوهر الأمر، ما العلاقة إلا صدى نيةٍ طيبة، وامتدادُ شعورٍ نقيّ، فإذا صفَت النيةُ أزهرت المودّة، وإن تعكّرت ذبلت الروحُ ولو ظلّت الأجسادُ قريبة. فالصدق وحده هو اللغة التي لا تَشيخ، والحبّ الصادق هو الوطنُ الذي لا يُغادرنا مهما ابتعدت المسافات.





































