حين يُذكر البكاء، يقفز إلى أذهان الكثيرين ذلك المشهد المألوف لامرأةٍ تُخفي وجهها بين يديها، أو طفلٍ يستجدي حضنًا يخفف ألمه. لكن ماذا لو كان الباكي رجلًا؟ لماذا يقف المجتمع عند هذه اللحظة متسائلًا باندهاشٍ: كيف يجرؤ؟ كأن الدموع وُلدت بلونٍ واحد، وكأن الرجولة لا تحتمل هشاشة الروح.
في ثقافتنا، يفرضون على الرجل أن يكون كتلةً من الصخر، أن يسير بثباتٍ لا يتزلزل، أن يخفي كل ما ينهش داخله وراء ملامحٍ جامدة، وأن يبتسم حتى حين يتفتت قلبه من الداخل. يُطلب منه أن يعود من عمله مثقلًا بالضغوط، لكنه يخلع أثقاله عند العتبة كمن يخلع حذاءه، ويدخل مبتسمًا كأن شيئًا لم يكن. كأنهم يطالبونه بأن يكون آلة، لا يحق لها أن تتعب، لا أن تُخطئ، ولا أن تبكي.
لكن الحقيقة مختلفة تمامًا. البكاء ليس ضعفًا، بل فعل بشري عميق، يحمل في داخله دلالات الشجاعة أكثر مما يحمل من معاني الانكسار. فالدموع لغة الروح، حين تعجز الكلمات عن البوح، وحين تثقل المشاعر على القلب فلا يجد منفذًا إلا عينيه. العلم ذاته لا ينكر هذا؛ فقد أثبتت أبحاثٌ طبية أن البكاء يفرز موادّ كيميائية مثل الأوكسيتوسين والإندورفين، وهي معروفة بقدرتها على تهدئة الجسد وتخفيف الألم النفسي والجسدي، كما أشار أطباء من Harvard Health Publishing. كذلك أوضحت دراسات منشورة في Medical News Today أن البكاء يحفّز الجهاز العصبي اللاودي، فيدخل الجسد في حالة استرخاء بعد موجة الانفعال، ولهذا يشعر المرء بالارتياح بعد أن يذرف دموعه، وكأنها مطرٌ يغسل الداخل.
أما في الطب النفسي، فالأمر أوضح وأعمق. فالقمع العاطفي المستمر يترك آثاره الثقيلة على الجسد والعقل معًا. الرجل الذي يتعلم أن يبتلع دموعه يصبح أكثر عرضة للاكتئاب والقلق، كما أثبت الباحثان Ad Vingerhoets وLauren Bylsma في مراجعات علمية متخصصة. ليس هذا فقط، بل أكدت منظمة الصحة العالمية أن الرجال أقل إقبالًا على طلب المساعدة النفسية، ومع ذلك فإن نسب انتحارهم تفوق النساء عالميًا. أي تناقضٍ أكبر من هذا؟ قوة زائفة تُفرض عليهم، تقتلهم في صمت.
حتى في مهنة الطب نفسها، اعترف بعض الأطباء في دراسة بعنوان The Physician’s Tears أنهم بكوا أثناء ممارستهم عملهم، مؤكدين أن دموعهم لم تُضعف ثقة مرضاهم بهم، بل عمّقت إنسانيتهم. إنّها شهادة حيّة على أن البكاء لا ينتقص من قيمة الرجل، بل يجعله أكثر قربًا من ذاته والآخرين.
إن السماح للرجل بالتعبير عن مشاعره ليس نزعًا من رجولته، بل هو عودةٌ بها إلى معناها الأصيل: القوة الحقيقية. القوة التي لا تعني الصمود أمام الآخرين فحسب، بل القدرة على مواجهة الذات، والاعتراف بالوجع، والبحث عن العلاج. أن يقول الرجل “أنا متعب”، “أنا حزين”، “أنا خائف”، هو فعل شجاعة لا يقل قيمة عن أي معركة يخوضها في الخارج.
وهنا يأتي دور العلاج والوعي الطبي. ينصح الأطباء النفسيون بالاعتراف أولًا بالمشاعر وعدم كبتها، ثم تفريغها عبر البكاء أو الكتابة أو الحديث مع شخصٍ موثوق. وفي حال تكررت موجات الحزن أو ارتبطت بفقدان الشغف واضطراب النوم والشهية، يصبح التوجه إلى مختص ضرورة، حيث قد يُستخدم العلاج السلوكي المعرفي (CBT) أو العلاج الدوائي تحت إشراف الطبيب، كما أوصت بذلك الجمعية الأمريكية للطب النفسي (APA). بل إن بعض الحالات النادرة قد ترتبط باضطراب عصبي يُسمى Pseudobulbar affect، حيث تحدث نوبات بكاء غير متحكم بها، وهو ما يحتاج إلى تقييم وعلاج متخصص.
إنّ الرجل الذي يُمنح مساحةً للبكاء، للبوح، وللتنفيس، هو رجلٌ أكثر صحةً، أكثر توازنًا، وأكثر إنسانية. وحين يُدرك المجتمع أن السماح له بذلك ليس تهديدًا لصورة الذكورة بل تحريرًا لها من أقنعةٍ كاذبة، عندها فقط يمكن أن نرى جيلًا جديدًا من الرجال، جيلًا لا يخشى دموعه ولا يخشى ضعفه.
ولعل أجمل ما يُقال هنا: فلتعلموا أن الرجل حين يبكي لا يفقد رجولته، بل يسترد إنسانيته. دموعه ليست سقوطًا، بل ولادة جديدة؛ ليست انكسارًا، بل اعترافًا شجاعًا بأنه بشر. كل دمعة هي نافذة يفتحها قلبه لينفض غبار الصمت، وكل لحظة بوح هي طوق نجاة من الغرق في صمتٍ مدوٍّ. إن الرجل الذي يجرؤ على أن يواجه نفسه بدموعه هو رجل أقوى ممن يخفيها؛ لأنه لا يهرب من حقيقته.
فالبكاء ليس نهاية الرجولة، بل بدايتها الحقيقية: رجولة تنبض بالصدق، رجولة تحيا بالرحمة، رجولة تُشبه المطر حين يلامس الأرض العطشى… لا ينقصها الهيبة، بل يزيدها حياة.





































