قصة بهاء الدين قراقوش
((مابين الحقيقة والوهم... والحكم للتاريخ))
"لما رأيت عقل بهاء الدين قراقوش مخرمة فاشوش، قد أتلف الأمة، والله يكشف عنهم كل غمة، لا يقتدي بعالم، ولا يعرف المظلوم من الظالم، والشكية عنده لمن سبق، لا يهتدي لمن صدق، ولا يقدر أحد من عظم منزلته، أن يرد على كلمته، ويشتط اشتطاط الشيطان، ويحكم حكما ما أنزل الله به من سلطان، صنفت هذا الكتاب لصلاح الدين، عسى أن يريح منه المسلمين".
(من مقدمة كتاب الفاشوش فى حكم قراقوش لابن مماتى)
كان خادما لصلاح الدين الأيوبي وقيل خادم أسد الدين شيركوه، عم صلاح الدين فأعتقه. ولما استقل صلاح الدين بالديار المصرية جعل له زمام القصر، ثم ناب عنه مدة بالديار المصرية، وفوّض أمورها إليه، واعتمد في تدبير أحوالها عليه. كان رجلاً مسعودًا، حسن المقاصد، جميل النية، وصاحب همة عالية، فآثاره تدل على ذلك، فهو الذي بنى السور المحيط بالقاهرة، ومصر وما بينهما، وبنى قلعة الجبل، وبنى القناطر التي بالجيزة على طريق الأهرام، وعمّر بالمقدس رباطا، وعلى باب الفتوح بظاهر القاهرة خان سبيل، وله وقف كثير لايعرف مصرفه.
وقد اعتمد عليه صلاح الدين الأيوبي، بالإضافة إلى اثنين آخرين هما الفقيه عيسى الهكاري والقاضي الفاضل، وعمل ثلاثتهم على تثبيت دعائم الدولة وإنهاء الفوضى التي عمّت مصر بعد وفاة الخليفة العاضد، حيث حاول بعد رجاله الدخول في صدام مع صلاح الدين بأمل أن تبقى مصر تحت راية الفاطميين.
وينسب إلى قراقوش أنه قام بدور تاريخي في إنهاء سطوة أسرة العاضد حيث سجنهم وعزل نساءهم عن رجالهم، وفرّق عنهم مواليهم، وسيطر على ثرورة القصر الفاطمي التي كانت كبيرة جدًا.
حصل بهاء الدين قراقوش على لقب الأمير، ونال ثقة الحكام في مصر والشام، ومدّ جسره إلى الآثار الباقية حيث أنشأ القلعة والسور بالقاهرة، رغم ذلك لم يسلم من الادعاء حوله.
فالمؤرخ المصري ابن مماتي، الذي عاصر صلاح الدين الأيوبي كتب فيه كتابًا أسماه " الفاشوش في حكم قراقوش".
وتشير كلمة "فاشوش" إلى الأحكام الفاشلة أو الوهمية، وقد ورد في لسان العرب "فاشوش: ضعيف الرأي والعزم"، ويقال في الدارجة "فشوش" للشيء والكلام والفعل الفارغ الذي لا مضمون له.
وقد عمل ابن مماتي في مؤلفه هذا على نسج حكايات بسيطة ومضحكة منسوبة لقراقوش، ما سهل تداولها على الناس عبر الأجيال، وبعض هذه القصص ليس واقعيًا من خيال ابن مماتي المحض.
ويقال إن الصراع بين ابن مماتي وقراقوش وراء هذا الكتاب، وحيث الأول كان يمثل سلطة القلم، في حين أن الثاني كان يعكس تسلط السيف، وقد تنافس الاثنان في عصر الأيوبيين على أن يكون لكل منهما نفوذه الأكبر.
وقد فاز قراقوش على ابن مماتي، ولكن فيما بعد كان المؤلف قد خلّد صورة بهاء الدين قراقوش بالطريقة التي أرادها، وذلك وفق النماذج التي رغب فيها بالضبط من تصويره على أنه أحمق وجائر.
وفيما يلي رصد لأبرز نوادر وطرائف "قراقوش" التي وردت في ذلك الكتاب:
1. المرأة الحجازية والجارية التركية:
كان "قراقوش" يميل إلى البيض ويكره السود، وذات يوم اضطرته الظروف إلى الحكم بين امرأة حجازية وجاريتها التركية، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يحكم فيها؛ فقالت الحجازية لـ"قراقوش": "إن هذه جاريتي قد أساءت الأدب على".. فنظر إلى بياض الجارية التركية وسواد الحجازية، وقال للحجازية: "ويلك خلق الله جارية تركية لجارية سوداء حجازية ما أنا أحمق أو مغفل".
وبعد ذلك أمر جنوده باحتجاز الحجازية، لتقضي في الحجز شهرا، وبعد ذلك عادت إلى "قراقوش" وأخبرته أنها اعتقت الجارية، لكن الأخير قال لها: "إنها هي (أي الجارية) التي تعتقك فأنك جاريتها وأن ارادت أن تبيعك فأنها تبيعك، وأن ارادت أن تعتقك فأنها تعتقك، فطلبت الحجازية من الجارية أن تذهب للحاكم وتخبرها أنها اعتقت سيدتها وبالفعل استجابت لها الجارية وأمر "قراقوش" بالعفو عن الحجازية.
2. قيل إن "قراقوش" دخل في سباق مع رجل بفرسه، فسبقه الرجل، فأقسم "قراقوش" ألا يعلف فرسه لمدة ثلاثة أيام، فقال له السائس أنه يخشى أن يموت الفرس، فرد عليه "قراقوش" قائلا: "احلف لي أنك إذا علفته لا تعلمه أنني دريت بذلك"، فأقسم له السائس وأطعم الفرس.
3. ومن بين ما قيل عن "قراقوش" أيضا أنه لم يكن يعرف الفرق بين الشعر والقرآن، حتى أن رجلا جاء إلى "قراقوش" ومدحه بقصيدة وأنشدها بصوت طيب فقال له "قراقوش": "يا مقرئ لقد قرأت قراءة طيبة".
4. رُوي عن "قراقوش" أنه نشر قميصه، فوقع القميص من على الحبل، فلما بلغه ذلك تصدق بألف درهم، وقال: "لو كنت لابسا هذا القميص وقت وقوعه لانكسرت".
5. وذات مرة نزل جندي إلى مركب وكان به فلاح وزوجته، وكانت الزوجة حاملا في سبعة أشهر، وضربها الجندي ففقدت جنينها، فذهب الفلاح إلى "قراقوش" يشكو إليه الجندي، فقال الأمير للجندي: "خذ زوجة الفلاح عندك واطعمها واسقيها حتى تصير في شهرها السابع، ثم أعدها إلى زوجها؛ فقال الفلاح:" يا مولاي تركت أجري على الله" ثم أخذ زوجته وذهب.
6. كان "قراقوش" يمتلك صقرا يعتز به، لكن الصقر طار من عنده ذات يوم وعندما علم بذلك أمر بإغلاق جميع أبواب المدينة حتى لا يجد الصقر مكانا فيعود إليه.
7. دخل رجلان على "قراقوش" وادعى أحدهما على الآخر أنه عض أذنه، فسأل "قراقوش" المدعي عليه عن حقيقة ذلك الأمر، فرد قائلا إن المدعي هو الذي عض أذنه بنفسه؛ فحاول "قراقوش" ان يعض أذنه بنفسه لكنه لم يفلح وسقط من على الكرسي الذي كان جالسا عليه خلال محاولاته فأنكسرت يده، فأمر بضرب المدعي عليه وقال له: "أنت الذي عضيت أذن هذا الرجل وكسرت ذراعي زيادة على ذلك".
8. ذات يوم جاء إلى "قراقوش" شاب تعرض للضرب ليشكو له الشخص الذي ضربه، فأرسل معه خمسة من الحراس، وعندما علم الجاني بذلك سارع ووقف بجانب "قراقوش"، ولما أقبل الضحية قال المعتدي متحدثا عن الضحية: "هذا الذي قتلني وضربني"، فقام "قراقوش" بضرب الشاب المظلوم وبطحه حتى كاد يلقى حتفه وهو يقول إنه مظلوم، فقال له "قراقوش": "لقد سبقك"؛ فحلف الناس ألا يمكثون في المدينة مادام "قراقوش" حاكمها.
9. جاءت الشرطة لـ"قراقوش" بغلام كان يعمل عنده حداد، متهما بجريمة قتل، فأمر بشنقه، فقيل له: "إنه حدادك الذي ينعل لك الفرس، فنظر "قراقوش" ناحية بابه فوجد رجلا يعمل كصانع أقفاص فقال: "ليس لنا بهذا القفاص حاجة، اشنقوا القفاص واتركوا الحداد لكي ينعل لنا الفرس".
10. يحكى أن دائنا اشتكى للحاكم مماطلة غريمه في دفع الدين، فقال المديون لـ"قراقوش": "يا مولانا إني رجل فقير، وإذا حصلت شيئا له لا أجده، وإذا صرفته جاء وطالبني"؛ فرد "قراقوش" قائلا: احبسوا صاحب الحق، حتى إذا حصل المديون شيئا يجده ويدفع له"، فتنازل المدين عن حقه ومضى.
وتأسيسا على ماسبق نقول إن بهاء الدين قراقوش بشرا قديصيب أويُخطئ والأنبياء وحدهم هم المعصوم من الخطأ.. لذلك يبقى الحكم للتاريخ فهو الحكم العدل، الذى يحكم على كل إنسان بما له وما عليه.
ودائما وأبدا سنحيا بالأمل ..... سنحيا بالعلم ..... سنحيا بالكفاح ....... سنحيا بالتسامح ....... سنحيا بالأبتسامة الجميلة .