ـ 2 ـ
ظل عمرو طول الليل يقظا يجافيه النوم قائما في محراب جمال الدكتورة ولاء تبد صورتها بمخيلته كمشكاة أضاء نورها وجدانه يترنم بمفاتنها كأنها قصيدة:
ـ ما كانت بشرا بل هي ملك كريم .. نور يتخلله ملامح انسان .. ظل للقمر في تتمه .. يرتشف الربيع نسيمها ويصافح الخيال جبينها وجهها الفردوس فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
باتت وكأنها حقيقة يلمسها بحواسه كأنها تجالسه في حجرة نومه وهي التي سلبته فراشه وجعلته يتعرش الخيال ويتكأ على الحب الذي كان يلفظه .. الحب الذي ألبسه رداء اليأس وأذاقه بأس الغدر في الوقت الذي كان لا يستطيع فيه أن يميز بين الحب المنزه من أي غرض الذي يعد جنة الانسان في الارض جنة الخلد وبين العاطفة التي تختبئ وراءها الشهوة تولد لتموت فقد برزت له فيما مضى فتاة تتمتع بقدر كبير من الجمال ملفوفة القوام ممتلئة بالتضاريس والنتوءات التي تبد كمرآة تعكس جمال الطبيعة عانقها كثيرا في أحلامه وطبع على كل موضع من جسدها قبلات حارة وكم أراق على عفتها ماءه الدافق فكان في يقظته يطلق لها عواطفه الجياشة وفي أحلامه يطلق عليها شهوته المكبوتة كانت تمثل له حبه الاول كما كان يظن شبا معا كجيران نمى بينهما غصن الحب رغم تباين عائلتهما في العادات والتقاليد فعائلة عمرو ميسورة الحال عائلة محافظة على قدر من التدين والالتزام وأما عائلة حبه الاول وفتاة أحلامه عائلة متواضعة في كل شيء خلقا ونسبا ومالا لا يتوفر لهم لدى الناس من رصيد سوى جمال ابنتهم الوحيدة وكانوا يسوقونه كبضاعة مزجاة طامعين في ان يجلب لهم الثراء وكان اسمها لا يتناسب مع أخلاقها فكانت تدعى سامية وكانت تكنى فيما بينهم بلفظ سمسمة وكانت تعشق التدلل لكونها الوحيدة في اسرتها ولثقتها البالغة في حسنها فنشأت على ان كل شيء مباح مجردة من الحياء ترغب في امتلاك كل شيء حذف من قاموسها ألفاظ .. ممنوع .. حرام .. عيب .. لا يصح .. فلا معقب لافعالها .. تعلق بها عمرو تعلقا شديدا أصبحت أيكته التي يستظل بها وأريكته التي يسترح عليها وسيفه الذي يبارز به رجولته في أولى مراحل بناءها كانا يتبادلا الغرام عبر ارسال الاشارات على هيئة قلوب وكلمات وقبلات من خلف النوافذ والشرفات حتى لا يطلع أحد على سرهما وكانت كلما وقفت سامية في شرفتها وتدلى ناهديها خارج الشرفة وبدا كثمرتا رمان على عوده جذبت اليها جميع الانظار حتى نظائرها من الاناث وكانت تجود لهم جميعا بالنظرات والابتسامات فيقع في قلب كل من يراها أنها تحبه هو وأنها تقف بالشرفة من أجله هو وكان يتنافس في حبها مع عمرو أكثر من شاب من أهل المنطقة السكنية محل اقامتهم والتي تفصلها عن فرع النيل شارع وصف واحد من المباني العالية الارتفاع والتي تحجب رؤية النيل من محل اقامتهم فكلما أرادت التنزه والاستمتاع برؤية النيل تبرجت في أبهى زينتها وخرجت يفوح عطرها من كل مكان كأنه مؤذن ينادي:
ـ هلموا يا شباب .. أنا سامية
كانت تمشي الهوينة تختال في خطواتها كقطعة مغنطيس تجرو وراءها أرخص المعادن من البشر فيرمقها شاب بناظريه وأخر سلقها بلسان حاد وأخر يطاردها كظلها وكانت عيناها تبرقان من شدة نشوتها بالاعجاب بذاتها وكان عمرو يكتفي بمجرد النظر اليها ومتابعتها من بعيد وكان يعلم يقينا مقصدها والى أين تولي وجهها فكان يسلك طريقا أخر ويسبقها الى هناك ويلتقي بها وكان يأخذه الشوق الى ان ينسى نفسه وكأنه اختلى بها فيهم بتقبيلها فتنئو بجانبها وتدعي الحياء قائلةً:
ـ لا تفعل ربما أحدا يرانا
فالفعل في ذاته ليس عيبا عندها ولكن العيب هو ان احدا يراها ليس خوفا من الفضيحة والعار بقدر ما هو خوفا من ان ينفض المعجبين من حولها فكانت تعشق كل الشباب سرا فينتبه عمرو ويتراجع عن فعله محترما رغبتها ويكتفي بتقبيلها بحركة بسيطة من فمه يطلقها في الهواء وما لبث أن أمسك كفها وأحكم قبضته وأومأ اليها بالجلوس على الايكة بشاطئ النيل فجلسا معا وأخذا يتبادلا النظرات ويقتربا من بعضهما البعض على غير ارادة منهما حتى كادا أن يلتصقا وبالفعل تلاشت المسافة البينية بينهما وأصبحا كشيئ واحد ودنت الشفاه واضطربت الابدان وهمسا معا بصوت لا يكاد يسمع:
ـ أحبكِ
ـ أحبكَ
ثم استطرد عمرو قائلا وما زال قلبه يرتجف:
ـ أعتقد ان كلانا الان يسبح في الفضاء وكأن الحب الذي ولد ونمى بيننا منحنا أجنحة نحلق بها في خيال يزاحم الواقع .. فأما الواقع فهو الحب .. وأما الخيال ..
وجم عمرو هنيهة ثم ردد قائلا:
ـ أما الخيال .. أما الخيال ..
قالها على استحياء وكأن شيئا بداخله يمنعه مما اضطر سامية ان تسأله بالحاح:
ـ أما الخيال .. ماذا؟
فكان جوابه:
ـ ولقد رأيتك في المنام كأنما *** عاطيتني من ريق فيك البارد
وكأن كفك في يدي وكأننا *** بتنا جميعا في فراش واحد
فتنهدت سامية زفيرا ملتهب يتطاير سعيره من حر مصافحة الحروف لشفاها فقد أبصرت المعاني والمفردات كأنها حقيقة بعين خيالها وأطرقت للحظة كأن لسان حالها يقول:
ـ هل من مزيد
كأن الحروف صارت مخدرا أسلبها الوعي وتركها عالقة في خيال الكلمات فأرخى جميع عضلات جسدها فأصبحت كغصن يهزه الهوى حيث شاء وبدت وكأنها ستخرو على الارض فأمسك عمرو بيدها اليسرى وأحكم قبضته وجعل من ذراعه الايسر اطارا لكاهلها ثم قال مستطردا:
ـ وددت لو اني أعانقك وددت لو أني توسدت ناهديكِ .. لو أني غرثت غابة من القبلات فوق عنقك .. وددت لو اني صرت رضيعا يلعق رحيقك أو صرت طفلا يربوا في حجرك
*** *** ***
امتد الحوار بينهما ما بين تنهيدة وما بين تغريدة حتى عانق الغسق سماءهما وأصابت عمرو رجفة شديدة هزت أركان نفسه فلقد همت به نفسه تلومه بأنه اقترف اللمم ودنى من الموبقات واقترب وخشي ان يقطف تفاحة ادم فيطرد من الجنة فيفقدها في الدنيا وتحرم عليه في الاخرة مما دعاه الى الانصراف على وجه السرعة وتلفيق أي عذر للفرار من الوقوع في الخطيئة فهرول يطارده شبح المعصية وما يجلبه من محق في كل شيئ وهام على وجهه بغير جهة يقصدها فحملته قدماه الى مسجد سبط رسول الله صل الله عليه وسلم سيدنا الحسين ودخل كعادته من بابه الرئيسي بجوار القبة والمعروف بالباب الاخضر تصاحبه حالة من الجلال استمدها من انعكاس أشعة الضوء المنبثق من أعمدة الانارة بالحجر الاحمر للمسجد متوجها الى المقام وتعلق بالمقصورة النحاسية وسط القبة بداخل المشهد وانهمرت عيناه بالبكاء ينتحب تارة ويشجب حاله تارة أخرى وكان بجواره مجذوب في ثياب رثة يسيل اللعاب من فيه كأنه صنبور يسرب ماء لا يكترث كثيرا بمن حوله يردد مادحا:
ـ هذا الحســــــين وهذه أنواره ** لاحت على زواره أسراره
هذا الحسين وفي الجنان مقره ** فاحت على أحبابه أعطاره
واذ به فجأة يلتفت الى عمرو ويمسح على شعره ويتوجه اليه بدون اي مقدمات ناصحا:
ـ والرجز فاهجر
ثم أتبع حديثه قائلا:
ـ العشق طهرة والصبر مهره
وكان عمرو متكأً فأراد ان يقوم فوكزه المجذوب فأعاده جالسا ثم استطرد قائلا:
ـ وثيابك فطهر
ثم صرخ بصوت مرتفع:
ـ الله .. نظرة يا ابن بنت المصطفى نظرة
وتملكت عمرو الدهشة فكأن المجذوب مد يده بداخل نفسه واقترف منها محتواها فبدا ما في باطنه ظاهرا أمامه في أقوال المجذوب وكأن المجذوب اطلع اليه الهاما فجاءه ببريد ربما يلتمس فيه شفاءه فقال للمجذوب وهو يحاوره:
ـ اني عاشق
فقال له المجذوب:
ـ الحمد لله الذي صير طبعك الى طابع الادمي
فأردف عمرو قائلا:
ـ والعاشق فاسق
فلطمه المجذوب بظهر كفه على خده ثم همس في أذنيه:
ـ ليس في الحب وزر انما تلام على ما تستطع من الامر
ثم نهره وصرخ في وجهه:
ـ قم وابحث عن الحب فانك لم تحب
وظل يردد .. انك لم تحب ..حتى تلاشى من أمامه ولبث عمرو قليلا يدير ما قاله المجذوب بمخيلته وكأن ما قاله رؤيا لابد لها من معبر ولكنه أيقن أنها رسالة تحذره من شيء وتنذره بانه لم يحب ويتسائل في نفسه:
ـ وماذا عن حبي لسامية الذي غض بصري عن أشياء كثيرة أنكرها أليس هذا بحب
طرح سؤالا لنفسه وكان جوابه:
ـ هو محض شهوة زينتها رجولتي وقرينها
ثم هم بالخروج من الباب المقابل لخان الخليلي وخارج المسجد وجد المجذوب أمامه كأنه ينتظره وهو ما يزال يردد:
ـ ابحث عن الحب فانك لم تحب
ثم صوب اليه المجذوب نظرات حداد:
ـ ستعيش وحيدا ما لم تحب
ثم خفض من حدة صوته وهمس في وجه عمرو:
ـ تذكر يا بني .. والرجز فاهجر ... وثيابك فطهر
ثم انطلق المجذوب وهو يردد:
ـ العشق طهرة والصبر مهره .. العشق طهرة والصبر مهره