إن النفس البشرية كالسماء المزدحمة بالنجوم والمجرات وكالأرض بثقيل معدنها وخفيفه وسهولها وجبالها وكالبحر بعمق مياهه وضحالتها وغموضه وصفاءه فمن ذا يستطيع أن ينفذ من أقطارها ومن ذا بوسعه ان يخرج أثقالها ويغوص في أعماقها .. هذه النفس التي تجول العالم بأسره في سنة من النوم والتي تؤثر في الاشياء كلها وتتأثر هي بمجرد كلمة فربما كلمة واحدة أسعدتها وأحزنتها فسبحان مبدئها وباريها الذي قال فيها (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) .. لاحت هذه الخواطر بلواحظي كائنا يمشي على قدمين عندما قدحت زناد فكري وعكفت أفحص حالة أحد الاصدقاء فوالله الذي لا اله الا هو ان غاية سعادتي ان أرسم البسمة على وجوه الاخرين وتأملته جيدا و وجدت من أجله وجدا شديدا .. كيف صارت حالته الى هذه الحالة من التدهور لقد رأيته يمشي متيبس البدن كأنه لوح من خشب فلم يسعني سوى ان اناديه بصوت يعترضه الحرج:
ـ مصطفى
كأنني أريد ان لا يكون هو صديقي مصطفى شفقة عليه من هول ما شاهدت وعاينت فاستدار الي بكامل جسده على غير عادته فبدا كبرجل لف حول محور ارتكازه فانه لا يستطيع ان يحرك رأسه ليلتفت أو يثني ظهره ليلتقط لم يعد يحرك رأسه كيف يشاء فقط يظل منتصبا كأن أحدا أخذ بناصيتههكذا أخبرني أخوه الذي يرافقه كما قال لي مستطردا:
ـ ما تركنا معالجا روحانيا الا طرقنا بابه طلبا في شفاءه وقد توحدت كلمتهم على انه مصاب بمس من الجن وانه على هيئة ضفدعة جاثية فوق راسه وكأنهم تواصوا به
فرفعت راسي والتفت اليه التفاتة المحتج وقلت بصوت ملئه الثقة:
ـ ضفدعة .. أي ضفدعة .. أنا لا أرى شيئا .. وان كانت .. فالامر بسيط ..
ولم أتم حيث قاطعني مصطفى متسائلا في لهفة:
ـ كيف هذا بالله عليك دلني اليه
فندفعت أقول:
ـ الامر بسيط .. فمبلغ علمي ان الجن منحه الله القدرة على التحول الى اي صورة ولكن اذا تحول الى صورة ما تسري عليه نواميس هذه الصورة فاذا طعن جرح واذا قتل هلك
فتسائل اخوه يريد مني توضيح ذلك بلهجة فيها استعجال:
ـ كيف يكون ذلك
فكان جوابي على الفور:
ـ نرج مصطفى رجا شديدا حتى تسقط الضفدعة ونتخلص منها
وهنا أعرض مصطفى ونئى بجانبه مبتعدا عني على نحو تراه فيه طبيعيا كأنه يطوي الارض طيا وهو يردد:
ـ ان تريد الا قتلي .. ان تريد الا قتلي
فخجلت قليلا وتمتمت مندهشا:
ـ انه أصح مني انه ليس مريضا وليس مدعيا
ثم ابتسمت اتسامة يكسوها الحزن وأخذت أختلس نظرات قلقة الى مصطفى كأنني أبحث عن شيء كالدواء أو شيء يبرءه من الادعاء وأحس أخوه بالحيرة لهذا الموقف وأراد أن يزيل أثاره بدعوته لي الى زيارتهم فقلت وانا شارد الفكر غائب الذهن ملبيا دعوته:
ـ ان شاء الله
وتذكرت ان ما ألم بمصطفى ربما يكون مرض عضوي أصابه في العمود الفقريوأنالخوف حرر فقراته من المرض لحظة شعوره بالخطر كما يظن فهرول على النحو الذي شاهدته ولكن أخوه فاجئني بأنهم أجروا له كافة الفحوص والتحاليل الطبية وعرضوه على أكثر من طبيب وأجمعوا انه معافى تماما وخاليا من الامراض ومن ثم تسرب الى نفسي أنه مريض بحق ولكنه مريض بمرض الوهم الذي غرسه في نفسه المعالجون الروحانيون ليستنزفوا أماله ولتأصيل حيلهم في المجتمع فأبرمت مع نفسي أمرا .. الذي أستطيع به أن أبطل عمل السحرة وأحطم عليه أحلامهم فأردفت لاخيه قائلا:
ـ لقد ألهمني الله الدواء سأزوركم في الغد وما عليك الا ان تحضر لي ضفدعة وهذا سر أودعتك اياه لا تطلع عليه أحد
***
كان اليوم التالي يوم الاثنين .. نهار برائحة المطر وكنت صائما صيام نافلة بدون مخمصة أو طمأ وكأن الله يكافئني ويظهر لي عونه وتذكرت قول النبي صل الله عليه وسلم .. الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه واستبقت انا والامل الى بيت صديقي مصطفى فألفينا كآبة دقت أوتادها بمطرقة الوهم حينما فتح لنا مصطفى الباب ثم أفسح الطريق وقادنا الى حيث محل الضيافة ثم أغلق الباب وعلى الفور سألته بلهفة:
ـ أين أخوك؟
فأجاب بغير اكتراث:
ـ على وصول
وفي هذه الاثناء دخل علينا أخوه فنظرت اليه نظرة من عثر على ضالته فانفرجت شفتاه عن ابتسامة عريضة فأدركت أنه أحضر الضفدعة كما اتفقنا بالامس فأومأت ان يخفيها ولا يبديها حتى لا يشعر مصطفى بما ننوي ان نفعله فيفسد علينا عمله وفجأة التفت مصطفى فلاحظ بعض الاشارات فأوحيت اليه انني قد شرعت في العلاج وأبقيته على حالته واقفا وأخذت أحرك شفتاي كأنني أتلو شيئا ولبثت هكذا حت شعرت أن مصطفى قد أصابه الاعياء ونظر مصطفى الي بطرف عينه وهو يمنعها من ان تطبق أجفانها فأيقنت ان هذه هي اللحظة المناسبة لاغتيال الوهم الذي دسه المشعوذين في روع مصطفى وذلك بذات السلاح بوهم يماثله وفي هذه اللحظة أخذت الضفدعة من أخيه بدون ان يشعر وقلت بصوت مرتفع:
ـ بسم الله .. الله أكبر .. أخرج عدو الله ..
قلت ذلك ثم وكزته وكزة قوية فتأوه بصوت مرتفع: (آه .. آه) .. ثم وضعت الضفدعة في يده فأطرق للحظة ثم انتبه وقبض على الضفدعة بقوة وبدا كأنها ينتقم منها ثم ألقاها من النافذة وعاد مصطفى الى سيرته الاولى.