أسدل الليل أستاره وأسلب العقل وعيه وأطلق سراح باطنه ليجول في عالم الأحلام ويحلق فيه باجنحة خياله وجواد الهامه ليدرك بهما المحال ثم استيقظ مستردا وعيه مع اشراقة الصبح الجميل مستكملا حلمه أو مصطدما بواقعه محاولا الفرار منه ليبقى بعالمه المستقر بمخيلته فيظل نهاره هائما على وجهه عابثا بأوراق حياته مستمعا لاصوات أحلامه كأنما يوحى اليه كما أوحي الى النحل والى ام موسى عليه السلام فخرج ايمن متدثرا بردته في صباح ممطر متسللا عبر المجهول يبحث عن احلامه التي لا تتجاوز في مضمونها احلام العصافير التي تبيت ليلتها تحلم بحبوب الحنطة تجمعها من سماء تحولت بساتين فتصبح تغدوا اليها وكأنما اهديت سبلها.
وما لبث ان ورد نهر قريته الذي يتوارى خلف الاغصان و وقف بشاطئه وأخذ يحاكيه ويروي له أحلامه ويبوح له باسراره وقد تخللها شيئ من الرثاء:
ـ انها هي الفتاة التي تطاردني في احلامي وتربط على جوارحي فقد يخطر لي كل شيئ الا ان أفارقها فهي فاكهتي وهي بسمتي وهي وسيلتي الى جنتي هي كالسحاب لا ادري متى تمطر ولكنها حتما ستمطر كانت كثيرا ما تلاحقني في حدائق اليا سمين وغابات النرجس وبحيرات من قوارير وكنا نحلق معا في سماء يبلعها القمر نجومها لآلئ المرجان وندور معا في افلاكها ولقد رايتها هذه المرة تطوف معي بالبيت العتيق وقد طال مقامها بمخيلتي وقضيت عمري انقب عنها لعلها تكون الجائزة والان سوف امتطي اجنحة الشوق الى البيت العتيق مرافقا اختي فعسى ربي ان يرحمني فانساها أو يجمع شتات امري.
***
ولم يكن يعلم ان زين الفتاة الشامية عالقة هي الاخرى باستار أحلامها وتكاد تضاهيه في حالتها شكلا وموضوعا غير ان عمها حالا بينها وبين احلامها حينا من الدهر حيث تزوجها وانجب منها البنين والبنات ثم رحل عنها لتعود هي هذه المرة لتلتقي بفتى احلامها يطوف معها بالبيت العتيق ويزداد يقينها بانها سوف تلتقي يوما بمن يتسلل اليها ليلا باحلامها .
ولا كان يعلم انها غادرت وطنها متجهة الى مكة المكرمة لاداء مناسك العمرة عساها هي الاخرى ان تيرأ مما هي فيه
***
أدى ايمن مناسك عمرته هو واخته ثم أقامها بناحية باب الصفا بساحة الحرم وقال لها مشددا عليها ناصحا لها:
ـ لا تبرحي مكانك حتى أعود اليك
ثم ذهب يطوف طواف التطوع وقضى يومه متعلقا باستار الكعبة تارة وتارة اخرى قائما راكعا بالحصين ثم عاد وعيناه ممطرتان بالدموع الى اخته و وجدها كما تركها فأقبل عليها ومكث بجوارها جاثيا على ركبتيه كأنه يريد ان لا يمكث فأخذت تمرقه بنظرات تسبقها اليه بابتسامات عريضة فانتبه اليها وقال لها متعجبا:
ـ ألا اشاركك في فرحتك اخبريني ما الامر
فأجابته على الفور:
ـ لقد قابلتها يا ايمن
ـ من هي
ـ زينب
قال والدهشة تفر من عينيه:
ـ زينب من
ولما همت اخته ان تخبره لم يعطها الفرصة حيث قال مستطردا:
ـ زينب التي في خيالي ومن اجلها ابالي
فشخصت ببصرها اليه ثم أومأت اليه برأسها:
ـ انها هي
ولم يمهلها ايمن:
ـ اين هي
فارتعدت اخته رعدة خفيفة في عجلة وتعثر وحيرة:
ـ حسبك انك في الحرم تحاسب على النية على مخيلتك وان لم تقترف منها شيئا
فتمالك نفسه في الحال وخفض نظره خجلا وصمت صمتة طويلة وطفق يطوف بالبيت العتيق وعلى شفتيه ابتسامة توحي بالرضا والشكر.
***
ما كاد ايمن يعود الى وطنه حتى اعلن على ملئه اصراره على السفر الى الشام لخطبة زينب والبناء بها رغم علمه بانها ارملة وانها اكبر منه سنا وانها لديها البنين والبنات ورغم بعد المسافة لم تزده هذه المعوقات الا اصرارا وبالفعل سافر ايمن الى الشام تقوده احلامه نحو تحقيقها وطرحها بارض الواقع وسرعان ما اصطدم ايمن باحدى المعوقات أبناء زينب كأنه هوى من قمة جبل يتخطفه الطير وكأن الصفعة هذه المرة أشد من سابقيها وعاد ايمن ادراجه الى وطنه ولكنه استرد وعيه وقال لنفسه واعظا:
ـ ان هذا لسيف القدر اقتص مني لهروبي منه