لستُ ميِّتاً !
الصدق الصدق.. أقولُ لكم:
- لستُ ميِّتاً..
قلبي ينبض، عقلي صاحٍ، أكادُ أشعرُ بدفْقِ الدّمِ في خلايا رأسي رغم أنّ ثقبا ما قد انبثق فيه.
لِمَ لاتنظرون إلى عينيّ؟!
ها أنا أفتحُ فمي، لساني لايتحرّكُ، لكني أتحدث إليكم ألا تسمعون صوتي ؟!
لِمَ يغمر الاستغراب عيونكم؟!
كلُّ مافي الأمر أنّني وقعتُ هنا وسط الزحام. شيءٌ ما حملني وألقى بي عبر الطّريق، فصار جسدي معرِضاً لفضولكم وعيونُكم المتحلّقةُ حولي تحملقُ بوجلٍ وريبة.
عينا أمّ سالم بأهدابها الطويلة ترمقانني بجزع، عينا مصطفى الحلّاق الوقحتان تندسان بين طيّات ثيابي، وعينا أبي وليد تنظران بكراهية لملابسي الملوّثةِ بالطّين. لطالما كرِهَ أبو وليد وجودي في الحارة ونظر إليّ بقرفٍ حين أخرجُ أوّلَ النّهار، وحين أعودُ آخره خاوي اليدين إلّا من دفاتري المسودّةِ وكيسٍ مهلهلٍٍ فيه القليلُ من طعام.
من بين البياض والسواد تقفز عينان واسعتان ذابلتان يلوحُ فيهما طيفُ دمع، ربما كانت عينا تلك الفتاة التي دأبت على التّوَاري خلف نافذتِها المطلّةِ على زاوية الشارع، ومراقبة مشهدِ مرورِنا وافتراقنا كلّ صباحٍ أنا وسهيلة.
/هل كان اسمها سهيلة؟/
منذ ألقت بنا عصا النزوحِ في بلدتكم قاسيةِ القلب هذه وأنا أذوق كلّ يومٍ معنى جديداً للألم.
عيونكم كما عيون أهلِ البلدة على الرغم من أنها اعتادت منظر النازحين و صاروا جزءًا من نسيج حاراتها ودكاكينها وبسطات الخضار والأغراض الرّخيصة فيها إلا أنها لاتزال تنظر بتشكُّكٍ لهذا الغريب الذي لا يتركُ زوجته صباحاً حتى يحتضنَها، ويقبّلها وكأنّ هذه آخرَ مرّةٌ يلتقيها.
عيونُكم المستنكرةُ المتحلقة حولي تتّسعُ حدقاتُها، ويتلوّنُ بياضُها بالأحمر والرّماديّ، يدمدمُ بعضُكم بكلماتٍ، لكنّي لا أفهمُ ماتقولون.
هل ذكرتم اسمَ سهيلة؟!
هل تعرفونها؟!
أنتم لا تعرفون كم هي عذبةٌ كأوراق ورد، و نديّةٌ كغيمة، وكذلك لا تعرفون أنها فرحةُ قلبي الأولى وقصيدتي الوحيدة، وأنني كنت أجتاز كلّ شوارع مدينتنا التي أكلها ذئبُ الحرب؛ لأكتبَ لها قصيدةً على ساق شجرة الكينا التي تجاورُ بيتها، عند نهرٍ ..../نسيتُ اسمه/ .
بيتُها مبنيّ من حجارةٍ حمراءِ اللون، أو رماديّة لكنها صارت فيما بعد حمراء / ربّما العكس/
حين شرّدتنا المدافعُ، تركتْ أهلها وتبعتني إلى هنا، كانت تريد طفلاً أسمرَ يشبهني، لكنني لم أمنحْها سوى القصائد الثّكلى، ونظراتِ الاستنكار التي تملأ عيونكم وهي تحملق فيّ الآن، ذات العيون التي كانت تراقبنا باستهجانٍ يجلّلُ مسيرتنا من البيت الذي نستأجره إلى زاوية الشارع حيث نفترق، العيون التي تزم نفسها وتقطب حانقة عليّ وأنا أُقبِّلُ شفتي سهيلةَ المبلّلتينِ بندى الصباح، بينما يستمتعُ المارُّونَ بالمنظر.
تلاحقنا عينا تلك الفتاة الغضّةُ التي تشبه زهرة فلٍّ أوّل تفتحها، أنتبه لها وهي تتلصّصُ علينا من وراء نافذتها، أتخيّلُ الفتاة، أستشعرُ انفعالها بالمشهد وأكادُ أتحسّسُ صدرها وهو يلهثُ مع كلِّ قبلة أقبّلها لسهيلةَ ؛ ثم نفترق، سهيلةُ تذهبُ لعملها، وأنا أمضي للبحث عن أسماء جديدة للقصائد .
أكاد أعرفُ ما الذي يحصلُ لتلك الفتاة، كما يحصل لأي قصيدة قبل أن تبعث، تتوفز كلّ حواسها وتنز مسامها ويزداد دفُّقِ الدّمِ في قلبها، حين تترقّبُ موعدَ مرورنا أنا و س ه ي .../ إن كان ذلك اسمها! /
اليوم قبل لحظاتٍ سمعتُ تنهُّد الفتاة ثم تصاعدت التنهُّداتُ؛ صارت صرخاتٍ مكتومة، لكنني لم أتمكنْ من معرفة سبب تلك الصرخات فقد ثقبت رأسي رصاصةٌ عابرة وألقت بي في عرض الطريق ، وها أنا مسجى أمامكم، أنظر لعيونكم المفعمة بالدهشة، أنتظر تفسيرًا لنظراتكم التي تقتحمني وتلوكني وتتفلني مراتٍ ومرات، بينما س ... / فقط لو أتذكر ماكان اسمها / تتابع طريقها وهي تبتسم، وتتلذّذُ بطعم قبلاتي على شفتيها، و لاتعلم بالرّصاصة التي تنتظرُها عند المنعطف القادم.