تأخرت كثيرا يا أبي نامت الخراف التي أعدها كل يوم قبل أن أنام.
أكلت طعامي بعد الصيام باردا فمدفأة أمي بلا حطب وموقدنا لا كاز فيه .
حتى سراجنا الصغير خبا وانطفأ ضؤوه، فألقمتنا أمي بعض لقيمات للسحور ومضت تتوضأ. لم أعلم أن البرد قارس الى هذا الحد لكنت اندسست في فراش أمي أو حتى في سرير أختي صفية التي وبختني اليوم طوال الطريق ونحن عائدون من المدرسة، قالت لي :
- خليك رجل ...سمعتني خليك رجل
كان الطلاب الآخرون قد حشروني في زاوية غرفة الصف تناهبوا أغراضي وكسروا أقلامي ومسحوا أصابعهم الملوثة بالحبر بثيابي ولم أرد عليهم ولولا أن حضرت صفية وخلصتني من بين أيديهم لأوسعوني ضربا .
رافقتني صفية في طريق عودتي للمنزل وكانت تقرعني طوال الطريق وهي تشد كم قميصي وتضغط على كفي كلما نطقت كلمة رجل وتكز أسنانها على الحروف.
لكني لم أجرؤ أن أسألها كيف يكون الرجل رجلا؟؛
قلت لنفسي سأجد فرصة وأسألك أنت حين توصلني كما في كل فجر للصلاة في المسجد القريب، حينها سأنتهز الفرصة وأسألك لكنك تأخرت، تأخرت كثيرا. والبرد يتغلغل في عظامي، هل تأخرت وأنت تجلب الحطب من بساتين القرية؟!
أم أن شيخ المسجد كلفك كالعادة بعمل في منطقة بعيدة، هو لا يثق بأحد غيرك، لكنه صار يثقل عليك كثيرا، وصرنا لا نراك إلا نادرا، لم نفطر معك منذ بداية رمضان سوى مرة واحدة، وها نحن نقترب من منتصفه وأنت لم تعد، بل انقطعت اتصالاتك وحتى أخبارك.
كلما سألت الشيخ عنك قال أنك في عمل خير لا يقوم به أحد مثلما تقوم به أنت، أنت نادر المثال يا أبي، أنظر إليك وأنا إلى جانبك ويصل طولي إلى منتصف فخذك ، فأراك طويلا، طويلا جدا وقويا، كأبطال مغامرات البحر.
لم يوصلني أحد اليوم لصلاة الفجر، اضطررت للتأخر على حضور الدرس الذي يسبق الصلاة، لقد قررت أن أذهب للصلاة وحدي، لأثبت لصفية أنني رجل. حين تسللت من البيت أغلقت الباب بهدوء كي لاتسمع أمي، كانت تتوضأ ، وصفية تغط في نوم عميق.
الهواء البارد هو الذي قشعر جسدي وليس نباح الكلاب، فقد كان بعيدا لوهلة ظننته بعيدا، و لم أظن أنها قريبة إلى هذا الحد، قرببة لدرجة أنها الآن تنهش جسدي والدم يتنافر من جروحي دافئا،
كل ما كان يشغل تفكيري هو كيف ستعرف صفية أنني ضربت الكلاب وواجهتها دون أن أهرب، كنت فقط أريد أن أسألها: هل هكذا أكون رجلا؟!
وددت لو مسحت صفية وجهي من دمي الذي سح و صار بركة حولي، كم تمنيت أن تلف أمي جسدي بشالها الصوفي، صوت الإمام يتناهى إلى سمعي وهو يقيم الصلاة، كم وددت أن أنهض لكن قدمي عاجزتان، وكم تمنيت أن تعرف صفية أنني لم أرتجف، ولم أبك عندما انغرست أنياب الكلاب في جسدي، كنت سأذهب معها إلى المدرسة وأقول لأولئك الذين ضربوني أنني واجهت الكلاب الضالة التي طالما أرعبتهم، لولا أن هذا الرجل الذي يشبه أبي يلملم لحمي من أمام الكلاب ويضعه في كيس يحمله على ظهره ويتابع رحلته باتجاه البساتين الغائصة بضبابها، وهو يرفع رأسه وعيناه مليئتان بالدموع ويعاتب السماء التي ترى.