- زوجتي جنت .
ها أنا جالس أحدق فيها بعينين مفتوحتين إلى أقصاهما وهي تنكش شعرها، وتقطعه مولولة أمام غرفة الولدين .
جنونها ليس وليد اللحظة/ أقصد فترة بقائي في المنزل بسبب الإقامة الجبرية التي يعيشها الناس الآن/ ، بل كانت له مقدمات كثيرة بدأت قبل هذين الأسبوعين اللاهبين، حين عدت متعباً بعد يوم بحث طويل عن عمل ولم يكن هناك خبز في البيت . شربت الماء ، أشعلت سيجارة استعرتها من صديقي إبراهيم واحتفظت بها طوال انتظاري لعمل بينما كنا جالسين في الساحة مقابل الحديقة التي امتلأت بالحمام يطير ثم يحط في مواقع الطعام ، وامتدت بسطات البائعين حولها مترعة بالمواد المتنوعة الرخبصة الثمن والمنخفضة الجودة . كنا نزجي الوقت بإطعام الحمام وهو يحلق حول العمود الشهير الذي يتوسط الساحة ، يدور دورة كاملة ثم يتهادى ويحط أمامنا ينقر مانلقيه له من فتات ، الحقيقة كنا نتحايل على الوقت بانتظار مرور أحد يطلب عمالاً .
عدت هذا المساء ولا أحمل سوى نصف السيجارة الذي خبأته منذ منتصف النهار ، زوجتي ما أن رأت السيجارة حتى ثارت وأرغت وازبدت وهي تقول : أنت تشرب ( ضراب السخن ) والأولاد قضوا اليوم بلا طعام سوى بقايا خبز وزيت و زعتر ..أين كنت طوال اليوم تتسكع .
لم أرد عليها فقد كان وضعها مريباً . وخمدت رغبتي في مشاركتها لي نصف السيكارة كما تفعل زوجة ابراهيم .
قلت في نفسي : ربما تكون فورة غضب وتنتهي بسبب مكوثها القسري في البيت وحرمانها من مشاويرها اليومية المعتادة للعمل في ببوت الجيران او بعض المعارف وحرمانها كذلك ممايجود عليها به من تعمل عندهم ، لكن الأمور تفاقمت بعد ذلك .
في يوم آخر وعندما كانت في المطبخ تسخن لي بقايا طعام الأمس لأتناول وجبتي الوحيدة / كنت أقرف الطعام لأنه يتلوى أمامي ويتحول بعد كل التواءة إلى لون جديد شاحب يشبه لون ذلك الفيروس الذي يتحدثون عنه / .
كانت تتحرك في المطبخ برشاقة و ترتدي ثوبا رقيقاً مطبعاً بلون بني يشبه جلد الفهود ، حين تمايلت بدت كحورية بحر بجسمها اللدن ، فمستني نشوة عارمة ،و تمنيت لو أهصرها بذراعي ، لكن نسيت شبهها بالحورية وتذكرت البحر ، ففتحت فمي المغلق بعد طول تفكير و قلت لها : هل تعرفين كم يحتاج الطفل كي يغوص مثل السمكة قي الماء ؟ حينها نظرت إليّ وقد تجمدت ملامحها ، وشعرت أنها على وشك الوقوع في نوبة جنون جديدة ، لكنها لم تفعل بل انسحبت بصمت ودخلت غرفة الولدين وأغلقت الباب بالمفتاح .
في آخر نوبة كانت تصرخ بوجهي : أين كنت ؟! وتجيب على سؤالها دون ان تترك لي مجالا لأنبس بحرف : بالتأكيد كنت ( معمي ع قلبك ) في ساحة المرجة .
وأرد بلا صوت : نعم كنت في ساحة المرجة ( معمي على قلبي ) ربما قالت ( مضروب ع قلبك ) .
هززت رأسي موافقاً و كنت أدمدم لنفسي : نعم في تلك الساحة أراقب المشردين وهم يتجادلون فيم يفعلون وأين يذهبون هم و أطفالهم من حمى الرعب من العدوى التي يهجس بها الناس ، وأراقب أصحاب المحلات وهم يتحركون بذعر صامت يغلقون محلاتهم ثم ينصرفون بنظرات حانقة . ولا يفوتني أن أقفز الى السيارات التي تبطئء سيرها ويطل منها رجال او نساء يطلبون عمالاً لأعمال مستعجلة ، وأنا أسابق الراكضين وأهتف بملء حنجرتي : أعزّل الحديقة وأقلم الاشجار . أشطف الأدراج أغسل السجاد .أعقم كل شيء .ثم أهمس بصوت خفيض : أجالس الأطفال ، لكن سباقي غالباً ما يبوء بالفشل ، فآخذ سيجارة من إبراهيم وأشعلها ، أتنشق دخانها الملكي الفاخر ، ثم أطفئها عندما تصل إلى نصفها، وأحتفظ بالنصف الباقي لأكمله في البيت وأحلم أن أطلب من زوجتي ( قبل إصابتها بنوبة الجنون الأخيرة ) أن تشاركني متعتي بسحبة أو سحبتين فتنسى همومها ، وتعتقني من صراخها وتمنحني ولو ابتسامة صغيرة ، لكنها حين أسرّ لها بطلبي تصرخ في وجهي قائلة : - "أنا أدخن هذا السمّ ( أكيد ضاربك العمى )..."
ولم تستحكم أعراض جنونها فعلاً إلا حين أخبرتها أن الأطفال حين نقذفهم من النافذة يمكن أن يكونوا مثل طيور الحمام في ساحة المرجة . بل يمكن أن يكونوا أخف بكثيير مثل السنونو تماما ؛ تنبت لهم أجنحة ويحلقون بحرية .
اليوم قلت لها أن أفضل طريقة للتعقيم هي النار وأن تعقيم منزل بما فيه من أطفال يستغرق سحبة سيجارة سحبة واحدة فقط . ورحت أضغط ولاعتي مرة بعد مرة وأراقبها من خلال لسان اللهب المتراقص ، وهي تنكش شعرها وتولول ..ألم أقل لكم أنها جنت تماماً.