من الذي سأخبره بموتك الآن يا حليمة ؟
الظلام يزداد حلكة، هي دقائق قبل أن يحين وقت انبلاج الفجر ، العالم همد بعد احتفالات صاخبة بقدوم عام جديد ، أحن إليك بعدد ماقال الناس لبعضهم سنة بيضاء .
كنت أراقبك ، أحصي أنفاسك وكم مرة ارتفع صدرك وهبط حتى سكن تماما وخرجت روحك مثل خيط نور أبيض وفاحت رائحة بخور ، خيم هواء ثقيل ، وسكن كل شيء وران صمت تام كأن العالم فقد النطق..
تمنيت لو توقف الوقت قبل ساعات حين كانت عيناك تدوران وتلمعان ببريق أراه للمرة الأولى، رغم أني أعرف كل أنواع البريق فيهما كما أعرف نبض قلبي وربما أكثر .
لطالما عشقت عينيك يا حليمة، لكن أكثر ما كسرني هو نظرة الخيبة والحزن التي لم تفارقهما طوال هذه السنوات العشر الأخيرة .
منذ تزوجنا وأنا أعشق كل شيء فيكِ ،ضحكتك عندما ترضين ، وعبوسك عندما تغضبين ، وإغضائك عني حين أغضب وأرفض ارتداء ملابسي التي تكوينها لي بعناية، فتقابليني بايتسامة وادعة وأنت تهمسين: لايليق بمدرس تاريخ أن يقف أمام طلابه بثياب غير مكوية .
الآن أنا مدرس تاريخ متقاعد بقميص مجعد يلتصق على جسدي الواهي ، رائحة عرقي تفوح وتزعج هدوءك .منذ رقدت في غيبوبتك وأنا قابع إلى جانبك لا أفعل شيئا سوى مراقبتك.
لكن لابد أن أخرج وأخبرهم بموتك لكن من سأخبر؟!
أخوك نسي وجودك وهو يركض ليعيل أولاده، أختك سافرت لتلتقي بابنتها في مدينة بعيدة باردة.
وأنا لا إخوة لي ولا أهل، مقطوع من شجرة كما تعرفين ، أنت كنت كل عائلتي .
آه منك يا حليمة، تستعجلين دائماً
هل يعجبك ما وقعت فيه من حيرة الآن ؟! ماذا يمكن أن أفعل ؟!
لم لم تنتظري ريثما نعود، أو يعود الأولاد
آه ...الأولاد .
كيف سأخبرهم؟!
أردد قولك الدائم
- ينجب المرء أولاداً يربيهم، يراهم يكبرون أمام عينيه، يأمل أنه سيستند على وجودهم
ثم لايجدهم عنده عندما يحتاجهم، تسرقهم الغربة
أولادنا الثلاثة، هاجروا، كل منهم حمل ثقل ما حصل هنا. وأودعه حقيبته ونسيه.
أطبقوا قلوبهم ودمع عيونهم ولم يعودوا للذكرى مجددا، في كل اتصالاتهم، يضحكون، يثرثرون يرسلون صور أبنائهم ، لكنهم لايذكرون ماحصل، فقط أنا وأنت نتذكر، ونصمت، ونطوي الدمع في قلبينا. كما طووا حقائبهم التي لالون لها، ثم راحوا يملأونها بألوان الحياة الحقيقية هناك، أما نحن الذين بقينا هنا، فنتمزق كل يوم ونحن نرى الآخرين القادمين من كل ريح يحملون حقائب بيضاء يملأونها بانتصارهم، بينما نمضي نحن بلا حقائب، وليس بلاحقائب فقط؛ بل لقد صرنا : (الآخرون) ...
نسكن في بيوت ليست لنا، نمشي في شوارع كل مافيها يلفظنا، نشقى لنحصل على قوت يومنا،
لا ادري أهي برودة الليل التي تجعل جسدي يرتجف بعنف، أم نظرتك الأخيرة التي لا تفارقني .وأنا أطوف في شوارع مظلمة خالية إلا من بضعة أشخاص يعبثون بحاوية القمامة آخر الشارع يلمون ماخلفه احتفال الليلة الفائتة هل أطلب مساعدتهم ؟!
أقترب منهم يبدون كأنهم لايرونني تتحفز القطط التي تحوم حولهم يتطلعون حولهم ثم يتابعون عملهم بعيون انطفأ بريقها، وهم كذلك لا يند عنهم أي نأمة، يعملون بصمت ذليل، حتى القطط حولهم تشاركهم في مؤامرة الصمت الكبرى، والظلام المريب .
تبا لهذه المدينة؛ لماذا يختبئ سكانها في بيوتهم ولايصدرون أي صوت، ولا يضيئون اي قبس. مدينة من ظلام .عالم من ظلام
كنت ضوئي الوحيد يا حليمة!
أسير وظهري محنيٌ بثقل فراقك
الدوار يلفّ كل شيء حولي، راسي تدور ..تدور بلا توقف، ربما هي نوبة السكري، لم أذق طعاما طوال أيام احتضارك ، لا رفيق يؤنسني سوى تلك الدمعتين
الأشياء تدور حولي لكني لن أقع لاتخافي ، الشمس بدأت ترسل شعاعها الأبيض الحارق والموجع. السماء تدور ، وكذلك الشارع يدور ويبتعد وتتلاشى معه الأشجار والأشخاص والقطط و الكلاب التي أسمع صوتها و لا أراها.
أعود للغرفة الهاجعة العابقة بروحك، تستحيل الحقائب إلى سقف أبيض واطئ، يدور ويطبق على صدري فأهوي مرة بعد مرة. شيء ورائي يسندني فلا ترتطم رأسي بالأرض، ولا بخشب السرير، هل كانت يداك؟! هل هو صدرك الذي كعادته يحمل رأسي ويحميه من الألم ؟!
تمتد يد تحشو فمي بقطع سكر كنت تحرصين على وضعها في جيبي الصغير وتوصينني بأن أتناولها بمجرد أن أشعر بالدوار .
رأسي يلاصق رأسك والدمعتان تحيرانني هل كانتا على وجهي أم على وجهك ؟!
حبات السكر تذوب في فمي ،لكن طعم المرارة يفيض من قلبي يملأ جوفي ويطفو ليملأ حلقي ولا أعرف ،لا أعرف حقاً يا حليمة إن كان هذا طعم الموت أم طعم الوطن.