سادراً في وحدتي ..كما العهد أنهض من فراشي كل مساء ألتفع بالظل الوحيد المتبقي من صورتي في بحيرة السماء أنتضيه لأنضم إلى قافلة الراحلين في مسالك المعنى ؛ ومجاهل القصد، ليس لليل حد ، صوت الأنين يدور في نقطة التكوين وأنا أدور في فلك الوجد ؛ وأبدأ رحلتي إليه نازلاً من مدارج الليل متجهاً إلى زرقة تلفّه كما الشمس .
أي لمس يمكن أن أكونه حين أقترب من مداره ، وهو يعالج السكرة الأخيرة للموت وينتفض في قلبه طائر بلون الشهد .
ثم دنوت فتدليت ؛ فصرت قاب قوسين من أعلى رأسه ، أسمع الصمت وأرى الظلام ، (ولم أكن من قبل أرى واسمع .) . كان اسمه /إمام الطواسين/ ؛ وكان مصلوباً على إبر الدمع العتيقة بلا يدين أو قدمين ؛ جسد من خشب، فالروح سر من وهب ؛ وعند رأسه المثقل بالرواية وقفت صامتاً أنشد الحقيقة ، وأخشع في حضرة الروح التي تتأهب للدخول في كينونة الحق ، تتصاعد مثل خيط بخور يفوح بالنجوى ؛ وحين تهتز الخلايا بالحضور الربوبي للمعنى ؛ تطل برأسها زهرة سوداء من نحره المدمى ، فتهتز أوردتي بنشوة عتيقة و تدور حولي المعاني والأسرار .
- أسألك ايتها الزهرة التي تنبتين الآن على صدره : هل تشعرين بنبض الحزن فيه ؟! هل تأملين بالرقص والدوران معه ؟! فلاتلقي الزهرة نظرة إلي وكأني أنا الممحو من سفر الدوائر . صوت يهوم من عميق الصد: / ماضل صاحبكم ..ما ملّ وما اعتل ؛ مابكى حين اشتكى .مقبلاً نحو السماء غير مدبر ! . يهيم الصوت في ملكوت بعيد ، فأدنو من الجسد الذبيح ، أنشر فوق رأسه من نوري الشاحب مظلة و غطاء ..
فيبدو باهتاً أمام نورك الأسود : ءيازهرة الحزن !
يازهرة ترفقي به . احملي عنه الدمع الذي يتقطر من جسده . أغيثيه بوصل للنون في استدارة شفتيه . هذا الحبيب سهرت الليل أناجيه ويناجيني ، وهو الآن بلا حبيب .
توقفت زهرة الحزن عن الدوران ؛ همست : - بل هو الآن في حضرة المحبوب .انظر إليه كيف انتظم النبض فيه وكيف استقامت الحروف .انظر الى رفة العين ورعشة الشفتين إلمس جبينه وتحسس جلده وهو ينضح بعرق العشق .
لا مثيل لرائحة النور التي تنبعث من دمه .
همهمت الزهرة باسمه :
- " يا حسين بن منصور ..أترى الآن ..."
هس صوت الدم في العروق :
/أرفع دمي إليك يارب لأرى ..../
بهتت زهرة الحزن وهي تسمع هسيس الدم .وردّدت مأخوذاً بالصوت :
/ وأنا أرفع إليك نبض الحزن في قلبي يارب ..لأرى ../
وقفت كالمشدوه ..حائرا في فلتة الزمن العصية على فهمي ..ظلالي تتراقص فوق الجفنين المطبقين وتدور مع زهرة الحزن في فلك الجسد المصلوب على خشب الحقيقة ...
انتظم الكون في حضرة عظيمة ..دارت الزاويا والأكوان في لحظة الإشراق واختفت زهرة الحزن من مدى بصري ..بقي الجسد المشبوب بظلال عطرة ودماء تيبست على نفسها .وانسحبت مع ظلي إلى بحيرة السماء من جديد ..غائصاً في بدري الكلي ..مستديراً ساطعاً كالحقيقة.