طالعتني الملامح القاسية لممرضتي الشابة عندما فتحت عيني، واصطدمتٌ بها على خلفية سقف لغرفة مسودة باردة . استغرقت لحظات لأدرك أنني في مشفى المدينة، الوحيدالذي بقي عاملاً ، يتكىء على جهود بعض الممرضات والأطباء المتدربين، أو بعض المتطوعين الذي لم يتسن لهم أن يغادروا كما غادر الجميع هذه المدينة المحاصرة منذ ثلاث سنوات ، والتي ماتت فيها كل أنواع الحياة عدا بعض ماكان يتشبث به من بقي صامداً من سكانها ولم يملّ من اللهاث على باب رئيس اللجنة الأمنية وهو يحمل طلب المغادرة ككل يوم بلا كلل ولا أمل .
هذا الوجه سرعان ما ذكرني بوجه الضابط الصارمة التي كانت تشرف على صفنا نحن النساء أمام الفرن الوحيد الذي بقي عاملاً في المدينة؛ إذ كنا نقف متدافعات متلاصقات منذ ساعات آخر الليل حتى ساعات منتصف النهار التالي لنحصل على مايسد رمق أطفالنا ؛ وكانت تلك الضابط تقف منتصبة كرمح تخطّ بقلم قاسي الرأس على كف كل منا رقماً تختص به ويختص بها ؛ والويل لمن تخل بدورها أو تتجاوز تعليمات الضابط الحازمة فستنال صفعة أو وكزة بكعب سلاحها ؛ وكنا نتهامس بعيدا عنها بشكوكنا حول كونها أنثى ؛ فقوة ذراعها تجعلنا في شك عميق من ذلك وخصوصاً عندما تقترب لمسافة مريبة من أجسادنا أو وجوهنا ؛ ونحار أكثر عندما تتساقط القذائف فوقنا فتمزق منا ماتطاله ؛ وتجعلنا نتطاير كورق الخريف في مهب عاصفة ؛ وهي لاتغير من مكانها أو وقفتها الصلبة كصخرة ؛ وكنا نتساءل فيما إذا كان هنالك اتفاق سري بينها وبين من يطلق القذائف فيرسم سمت الهدف بما يبعد عنها بمسافة مدروسة؛ أو أنها أوتيت هذا القدر من الشجاعة إذ تقف في مكانها لاتحيد وهي تحرس الصف كي لاينفرط نظمه ؛ أو لئلا تجرؤ إحدانا على التقدم بضع خطوات .
كنت أضع ابنتي أمامي ، وأجاهد كي أمنع نفسي من مراقبتها ، أو الذود عنها في حال تعرضها لطارئ ما فالمفروض أنني لاأعرفها فمن غير المسموح أن تحصل عائلة على أكثر من حصة واحدة من ستة أرغفة من الخبز المسود المحضر على عجل ونحن عائلة كبيرة أولادي الستة وأنا .
كنت كباقي الأمهات في هذا الحصار أكتفي بلقمة او لقمتين كي يحصل الأولاد على حصة أكبر من الخبز أو اي نوع من الطعام أستطيع الحصول عليه .
المصيبة الأكبر أن ابنتي جميلة ولايخفى جمالها على أحد مهما حاولت أن أخبئه تحت طبقات من الحجاب والملابس الفضفاضة الخشنة ، ولهذا السبب كنت لاأحيد ببصري عنها رغم خوفي من انكشاف أمرنا أمام هذه الغول متحجرة الوجه ..
أشارت إلي بسبابتها أن أتقدم خطوة ، فتقدمت وأنا أدفع ابنتي أمامي لتصبح أمام كوة المخبز قبلي ، ناولها العامل رغيفاً واحدا ثم أشار لي لأقترب ،وناولتي رغيفاً جمدت مكاني لكنني سرعان ما دُفعت من الصف الطويل خلفي ، وهمهماتهم تصم أذني : ابتعدي ابتعدي تحركي .
انسحبت خارج الصف وأنا أجر ّ ابنتي ونظرات تلك المتوحشة تنهشنا.
قالت وهي تصرّ أسنانها بحقد : هذه المرة حصلت على رغيف واحد في المرة القادمة لن تحصلي على شيء . ومزقتني بنظرة نارية متوعدة ..
ارتعدت لانكشاف أمرنا وارتعبت أكثر عندما أخذت تقترب بوجهها من ابنتي وهي تننفض لاأدري إن كان غضباً ام تشفياً ام شيئاً آخر لاأجرؤ على التفكير به .
جررت ابنتي مبتعدة وسياط نظرات تلك المتوحشة تلهب ظهري وأنا أشعر بها تلصص على تفاصيل جسد ابنتي الذاوي تحت ملابسها الخشنة فاحتضنت طفلتي وركضت بكل ما أوتيت من رعب . بينما دوى صفير قذيفة ساقطة من مكان ما تمنيت من كل قلبي أن تنزل فوق رأس تلك الغول فأستعيد هدوئي و شيئا من كرامتي .
لم أشعر سوى بدوامة نارية تقذفني في الهواء وتلفني بلهيب من اسفل قدمي إلى فروة رأسي ، لأفتح عيني ويطالعني وجه تلك الممرضة ، .همست لها بوجل : ابنتي أين ابنتي؟؟!! .قالت: هي بخير ، اطمئني، اهدئي، وأمسكت كتفيّ برفق تعيدني إلى وضعي مستلقية مرخية كخرقة بالية.، وهمست بحنو لايتناسب مع قسوة ملامحها : ستدخل إليك بعد قليل ، لاتخافي، إصابتها طفيفة ، استرخي أنت ريثما أحضر لك بعض الدواء ممابقي في المشفى .
بعد لحظات دخلت ابنتي ، كانت معفرة الثياب مغطاة بالدماء ، احتضنتها وبكيت.، بكيت أطفالي الجائعين في البيت وهم ينتظرون الخبز ، وبكيت زوجي المغيب منذ سنوات ولاأعرف له طريقاً ، بكيت لعل ذلك البكاء يشفي قليلا من قهر قلبي وقلة حيلتي ؛ بكيت وأنا أفكر باليوم التالي و كيف سأقف في طابور الخبز وأنا بلاساقين .