الجنية التي تشاركني غرفتي ذات ذوق راق؛ تختار لي ملابسي تنظم لي كتبي وترتب فوضى أوراقي، أصحو ليلاً من نومي فجأة ؛ فأجدها جالسة تحدق بي و قد أعدت لوازم السهر والكتابة، ثم تقترب مني تهمس لي بوشوشات شوق وتبتسم، ثم تثرثر وتهذر بجمل وكلمات اكتبها على عجل ، وعندما تنتهي السهرة ، تهيئ لي الفراش، تغطيني ؛ تقبل رأسي ؛ وتنسل عائدة للخزانة حيث تقضي باقي وقتها تغني غناء هادئا بصوت خيالي السحر؛ أغفو على هدهداته .
عندما أنشر مقالاتي في الصحف وعلى مواقع التواصل، يفاجأ الناس بما أقدم لهم من معلومات، تسبق وقت حدوثها، كتبت عن أزمة الوقود، وأوحيت لهم بحلول .
قدمت تفاصيل مالية مثيرة بأسماء وأشخاص معروفين ، كتبت أسماء المعارضين المعتقلين الذين سوف يتم الإفراج عنهم، والآخرين الذين سيتم الإيقاع بهم، بدأت مقالاتي تأخذ صدى ويهتم الناس بها؛ وينتبهون لما اكشف من حقائق وما أفشي من أسرار. وصل الأمر لاستدعائي من قبل رئيس التحرير الذي أخذ يساومني:
- لابد أن (عينك) واصلة جداً.
- اي عين؟
قهقه حتى شرق بريقه
- لا تخبئ الأمر عني فنحن رفاق. وشردت عن باقي كلامه ولم أنتبه إلا حين أنهى مقابلتي بقوله:
-انتظر ترقيتك القادمة في التشكيل الجديد للإدارة.
وابتسم ابتسامة ملغّزة، وخلف أذنه كانت جنيتي قد اتخذت شكل فراشة ترفرف بجناحيها، وتقف على كتفه بساق واحدة تميل برأسها، تبتسم بهدوء بالغ ووجه يفيض عذوبة.
عيناها الزرقاوان تلمعان كسماء تسطع فيها شمس الربيع.
كتبت مقالي الأخير عن الانتخابات بعد سهرة صاخبة ملأتها جنيتي بالرقص والتقافز حولي، تهمس لي وتلقي عليّ كلمات وعبارات وأسماء. لم أحفظ منها سوى ذلك الاسم الذي تردد كثيرا فيما بعد .
أنهت السهرة برقصة ناعمة انسلت بعدها إلى خزانتها تاركة فراشي في حالة من الفوضى، وجسدي في غاية الإنهاك، نمت عميقاً وحلمت بمروج واسعة؛ وانهار عذبة.
عندما أفقت كانت تجلس إلى جانبي تتأمل وجهي المبتسم وفي عينيها سكون عميق لا يشي بصخب سهرة الليلة الفائتة، كانت على ما يبدو تقرأحلمي.
تغير وجهها عندما هممت بالخروج ، حذرتني، لكنني لم أذعن لها، ضاقت عيناها ورمتني بنظرة متوحشة، شعرت بحرارة تجتاح جسدي التفت إلى الستارة فرأيت اطرافها تحترق وكذلك أطراف غطاء الطاولة وأغطية السرير. هرعت إليها ضممتها إلى صدري فسكنت وعاد كل شيء في الغرفة إلى طبيعته.
همست لي بحنان:
-هل أنا عروسك؟! إذن اسمع كلامي !
هززت رأسي موافقاً . ولم أخرج ذلك اليوم من البيت.
لكن هاتفي لم يهدأ فقد حقق مقالي سبقاً صحفيا تلقيت على إثره سيلاً من الاتصالات. كلهم يسألني عن مصدر معلوماتي ومدى صحتها ودقتها. وخصوصا ذلك الاسم العجيب.
أحد هذه الاتصالات كان من دائرة الأمن الوطني ؛ أبلغوني باستدعائي ؛ فلبيت على الفور .
وخرجت رغم الحزن الذي اكتسى وجه أميرتي الجنية .
نظر المحقق في عيني وقال:
-لا يبدو عليك الجنون! وكذلك لايبدو عليك أنك كاهن تقرأ النجوم ، وضحك ساخراً .
ثم أضاف : - من اين أتيت بذلك الاسم.
نظرت إليه كالأبله.
لم أستطع تذكر اي اسم أو أي شيء اصلاً.
ابتسمت وبقيت صامتاً. عاجلني بصفعة جعلت الدنيا تغيم حولي وتغبش الرؤية أمامي، نجوم حمراء تدور امام وجهي ومن خلالها رأيت وجه جنيتي شاحباً وعينيها الزرقاوين قد فقدتا بريقهما، ولمعتا بدمع أخرس.
لا أدري كم بقيت ملقى على الأرض الرطبة في زنزانة مضاعفة القضبان، ربما كنت غائبا عن الوعي لكنّي أذكر انني اشتقت للمسة جنيتي وشعرت بعمق ألم غيابها.
تخيلتها ترقص حولي رقصتها المفضلة، وعيناها تبرقان بصفاء وشقاوة .
نمت تلك الليلة وانا أتمنى أن أصحو فأجدني في سريري وهي تحدق بي والهة .
قبيل الفجر بقليل دوى صوت صفق الباب وامتلأت الزنزانة بأصوات وقعقعة أسلحة، لم أكد أفتح عينيّ حتى انهالت عليّ كعوب الأسلحة تكسر عظامي وتحطم أضلاعي، واصواتهم تردد ذلك الاسم البغيض من بين كزيز أسنانهم.
لم أعِ بعد ذلك شيئا، سوى السنة نار تتأجج على أطراف الزنزانة فنزيدها لهيباً .
فأغمضت عيني ولم أفتحهما إلا بعد وقت لا أدري كم طال.
اللون الأبيض يلف كل شيء حولي، ترتسم فيه وجوه تتمدد ملامحها، و تتقلص أمام عيني المتعبتين .
عيون فضولية تقترب مني تنظر بدهشة واستغراب، وجوه تفيض طيبة رغم أنها تبدو غائبة عما حولها، أصوات تتداخل وتتهامس وخليط من كلمات وعبارات لا ترابط بينها.
همست في سري متردداً:
هل أنا في مشفى المجانين! وضحكت لما ورد في خاطري.
عندما تمت إفاقتي وجدت حولي عددا من نزلاء العنبر يتابعون اكتشافي .
سكنت في سريري منزوياً عما يدور حولي من صخب، ثم صمت الجميع وساد سكون مترقب وكأنهم ينتظرون أمراً خطيراً ليحدث.
من الخزانة على يساري صدح غناء عذب أعرفه ولا أخطئه، وهاج في صدري شوق مبهم نسيته منذ مدة. .
اعتدلت في جلستي، عيناي تطوفان أرجاء الغرفة بحثاً عن مصدر الصوت، الوجوه تحلقت حولي باسمة تطوف عليها موجة سعادة غامرة، بعض الأيدي تشير لي بإشارات على الرأس راسمة شكل تاج او طرحة عروس، من بين زحام الوجوه شقّت الصف عينان زرقاوان داكنتان كسماء فوق بحر ؛
وأصوات زملائي في العنبر تهمس بضحكات مكبوتة:
- عروس عروس ...
بينما جنيتي تخطر بدلال قادمة نحوي محفوفة بكل تلك العيون الشاردة المترعة بالسعادة، وألقت في روعي فكرتها المجنونة:
- هنا ستكتب ما يحلو لك.
ندت عني آهة مندهشة لم أملك منعها وأنا أهمس :
- آه .... يا بنت .......