كان علي ان اعبر الفناء الطويل لدارنا الواسعة ففي آخرها يستندعلى حائط متهالك ابريق الماء الذي يجب أن أحضره لأعد ماء الوضوء ..فقد حان وقت صلاة الفجر ..وأبي يصلي الصلاة على وقتها ...لكن الظلام شديد والبرد اشد
حزمت امري وقفت مططت ظهري وتمتمت بآيات الحفظ وفتحت عيني على آخرهما اقتنص لمعة ضوء بعيد ..وجريت لأصل الى الماء
تلقفتني يد في الظلام أسندت ظهري إلى صدر ينبض بدفء عتيق ..فوقفت استعذت بالله من الشيطان ...ثم ركضت من جديد ووقفت أمام أبي ...كان ابي ينتصب امامي كنخلة طويل القامة مهيبا .. وأنا أنحني لاسكب الماء على يديه الممدوتين ... سكبت قليلا من الماء فصار دماً فجفلت ..فح ّ صوت في اذني ../لاتخافي/ ...بدا الصوت مألوفا وكأني قد سمعته منذ زمن بعيد وليس مألوفاً فحسب بل دافئاً وقد سرى دفؤه في مجرى الهواء في اذني ...ارتعدت كل ذرة في كياني فعادت اليد ذاتها تلف خاصرتي وتشد عليها بقوة موجعة كانت اليد التي تلفني والصدر الذي يسند ظهري حقيقياً إذن فهذا الصوت يخرج من خلفي والصدر يرتفع ويهبط مع كل كلمة تنطق ...ويشيع دفء في أوصالي المتصلبة خوفا وبردا....
شق الصمت في هذه الليلة الساكنة أصوات جلبة ورصاص ومدافع وحجارة تتحطم ....صواريخ وعبوات ناسفة ومدافع وصراخ بعيد ..
وقع ابريق الماء من يدي وتدحرج بعيدا كان من المفترض ان يرتطم بقدم والدي لكنه لم يفعل فوالدي ليس هنا لم يعد موجودا في فناء بيتنا والظلمة التي تلف الكون حولي تزداد عتما ..نظرت حولي بحثت عنه كان قد اختفى تماما في بحر الظلمة الحالك ..حركت قدمي لأخطو خطوة للأمام فاوففتني تلك اليد التي احتجت دفئها في تلك اللحظة ويبدو أنها شعرت بحاجتي فاستلت من خصرها شيئا مزقته نصفين ثم أخذت تحيط خصري به وتلفني مرات ومرات وأنا ادور وأدور مع لفات يدها ما ..تلمسته فاذ به نطاق من قماش خشن همست لنفسي ..نطاق؟ ؟؟
دفعتني للأمام توقف قلبي لحظة عن النبض وعقلي بستحضر اسمها بتوجس ..( أسماء ؟؟؟؟) لكني لااجرؤ على التفكير بامكانية ذلك ..الا في حالة واحدة أن يكون الظلام قد سلب عقلي ..لكني أعرف من انا واين انا ومن هذه ..إذن لم أجن بعد ......انتشلني صوتها من خضم رعبي وهي تهمس مرة اخرى ../لاتخافي/ .../امض ِ/ ..مشيت ... ...خطواتي متعثرة في البداية لكنها ثبتت وكانني أمشي على طريق واضحة لاتحيد ....ودفء حضورها يدث نبضا جديدا في دمي ...
توقفت فجأة وأوقفتني فانفتح مدى أمامي ...كانت مدينة تسحق وبيوت تدمر..مدافع عملاقة تدك الحجر وأصوات من بعيد تصرخ ...جيش الحجاج يستبيح المدينة...ارتعدت اوصالي ...لكن الجسد ورائي لم يترك لي فسحة للتفكير فقد. دفعني بعنف في طريق آخر ...والصوت يفح باذني من جديد ../امض / ويبدو مخنوقا ببكاء مكبوت ..توقف اليد التي تدفعني واوقفتني ضوء ما ينسرب وتبدو أشباح الأشياء حولي .. ...أمامي جسد عملاق يشبه جسد والدي كان مصلوباً والرأس يتدلى الى جانب الجسد الممزق بالسيوف والرماح ..ارتعش جسدها الملتصق بظهري والتحم بجلدي وانصهرت خلاياه فيّ ..وهمس صوت في حلقي لاأعرف من اين نبع ..لم اتبين الحروف في البداية ..ثم اهتز الصوت في صدري وانفجر هادرا كبركان ..صرخت :- .."أما آن لهذا الفارس أن يترجل ....".......
فجاة سكتت المدافع وهمدت الأصوات كلها ...وأخذت المدينة تغيب والبيوت المدمرة تستحيل خطوطا طويلة من ظلام ... وعلى تلة بعيدة لمحت شبحا يشبه الفارس الذي كان مصلوبا يمتطي صهوة حصان وصهيله يشق بحر السكون وهو يبتعد ويغيب وراء التلال الهاجعة ...أخذ النطاق المشدود حول خصري يرتخي وينسحب بهدوء ...ويختفي ذلك الدفء الذي كان يحتضن جسدي فأعود لارتعاشي ...الظلام يلفني وأمامي يمتد الفناء الواسع وفي آخره ابريق الماء ووالدي ينتظر أن أحضر له ماء الوضوء . فالفجر قد ظهر خيطه الأبيض وقد رفع له الأذان .....
عبير عزاوي
الإهداء/ إلى روح والدي عبدالله الذي ترجل باكرا / .