ودعتُ الممرضة التي كانت ملقاة على الأرض بجانب سريري غافية بعد مناوبتها الطويلة بلمسة من يدي على رأسها المرهق؛ فصلتُ عن القابس الكهربائي جميع الأجهزة الموصولة به لئلا تصدر صوتاً عند خروجي؛ فيستيقظ باقي المرضى الغارقين في حمى الداء يصارعون لحظاتهم الأخيرة؛ تسللت على أطراف أصابعي ؛ أغلقت باب الحجرة وانسللت عبر أروقة المشفى ؛ الهدوء يخيم على كل شيء بعد أيام طويلة لاهثة؛ خرجت الى الشارع المحاذي ..الصمت والسكون سيدا الموقف ؛ السيارات متوقفة تماماً عن الحركة ..كنت أمر من بينها خفيفاً كنسمة هواء ..على الطرف المقابل للشارع؛ كنتِ أنت ... واقفة تنظرين إليّ بعينيك العسيلتين اللتين لم تفقدا بريقهما ..بل شع فيهما وهج جديد يستحوذ عليّ؛ يسيّرني ويجذبني نحوك.
حولك تتحلق فتيات يماثلنك جمالا ورقة يبتسمن لي ويشرن بأصابعهن اليك فأشعر بهمسهن في أذني ..- " تعال فهي تنتظرك منذ مدة .. "
أسرعت خطوي ..كان الهواء يحملني ../ربما الشوق ! /
و قبل أن أصل إليك التفت يميناً فإذ برجال يقفون مبتسمين لكن ابتساماتهم تأخذ معان مختلفة ..الأقرب إلي منهم اتسعت ابتسامته معتذرة همس صوت في رأسي: إنه الخوف وهو يعتذر لك عما سببه من ذعر في الأيام الماضية ..أما الثاني فتحمل ابتسامته دفء الحنو؛ وهمس ذات الصوت في رأسي: إنه الأمل ...وهو يعتذر لك عن بؤسه .
والثالث يبتسم بأسى ..قال لي الصوت : إنه حلمك !! وهو يعتذر لك عن عجزه ...
وسهوت عن حديثه وأنا أدور في فلكك ؛ آه يا ليما ...كم يلزمني من ابتسامات دافئة و تعتذر حتى أصل إليك ....
تجاهلت الباقين وأسرعت طائراً نحوك ... وفي رفة هدب وصلت فتهللت وجوه الفتيات .ودرن حولك في احتفالية سرية ..اقتربت ملهوفاً أبحث عن يدك لأضعها بين يدي كما اعتدت ان أفعل حين أراك بعد غياب طويل .. ..لكني لم أجد. سوى هلام يتكوم في صدري ..حينها عرفت أن شيئين في صدرينا التفّا وتعانقا فرحاً بلقائنا ..
حملتنا معا نفحة لها عبق ريحان وبنفسج ...وحلقنا عالياً ...رأيت المدافع التي توقفت عن الزعيق وقد تركها أصحابها لتصدأ والطائرات التي كانت ترعبنا بصوتها قد علتها طبقات من غبار وهجرها الجميع ... والقواعد العسكرية قد أغلقت باقفال ضخمة ومحطات التجارب النووية ساكنة هامدة بلا حراك وطحالب عملاقة بدأت بالنمو فوقها ....المباني مظلمة والأسواق مغلقة وعلى ابوابها عششت حمامات وطيور حباري ...كانت المدن خاوية على عروشها ..وكان العالم ذاوياً مثل شجرة عتيقة وتحتها نبتت زهور أراها لأول مرة ....
..وحين وصلنا باب الغيم ..قبلتِني مرتين وهمستِ في أذني:
وداعا ياعالم الجسد ...أهلاً ياعالم الروح ...