ها أنا أسمعك يا سيد الأرض ،
(أتضرع إلى إنانا لتشملك بعطفها ودموعي مثل شراب حلو تتحدر )
أسمعك تهذي وصوت أنينك يحرق جلدي مثلما تحرق شمس أوروك السنابل.
عيناك شاخصتان للسماء وأنت تهذي:
فلتوقفي أيتها الطبول،ضرباتك تثقب رأسي بأسياخ من الحديد المحمى .
لكن الطبول لا تتوقف فهذه الأشباح ما تني تملأ غرفة احتضارك، تدخل عليك بلا استئذان وبلا حاجب، ولا فرسان مرافقين .
صار دخولها عليك مباحا وبمشيئة السماء لا بمشيئتك، بإرادة الإله لا بإرادتك أنت يا صارغون آلعظيم.
هاهي الأطياف تتحلق حولك، أطفال شقر بشعر دبق، عيونهم خالية من أي بريق، ينهمر منها دم ودمع، يحطّ الذباب على أطراف أنوفهم وأفواههم.
وراءهم تقف فتيات لم تنضج أثداؤهن بعد، ممزقات الثياب مشعثات الشعر يتطاير الخوف من عيونهن، وأفواههن يسيل منها دم وصديد، ويأتي بعدهن فلاحون يملأ الدود أكفهم، يقودهم نساء تيبست جلودهن تحت شمس أوروك وعيونهن يمتد فيها قهر كما امتد ملكك من البحر إلى عيلام.
وفي الزاوية البعيدة يقف بصمت عمال تشققت أيديهم وذبلت أكتافهم وتهدلت شفاههم من الجفاف. أطياف تتلو أطيافا.
هل كان الجوع سيد أوقاتهم؟! وكيف لك ان تعرف؟!
لقد كنت مشغولا بمعاركك الكبرى. فسيفك لم يغمد وحصانك لم يغادر أرض المعركة حتى غسلت سلاحك بمياه الخليج.
الدم لعنة تحل على كل موطئ حافر ضمه الجنود لملكك، ما تخسره بالحرب تكسبه بالحيلة، والناس تركع تحت قدميك، والأموال تتدفق على خزائنك حتى فاضت.
في وسط القاعة تتحلق جوقة النساء النادبات يرقصن رقصة الموت، يقصصن شعورهن ويلقينها أمامك ويتهيأن ليوقدن النار تحت بساطك.
(أنت الذي جعلتِ الولولة تُعزف على «قيثارة النحيب.»)
أتذكر
(حين أتى البشرُ
إليك بضجيجهم الملتاع
حملوا صراخهم
ووقفوا أمامك يولولون وينتحبون
لكن جنودك جلبوا النحيبَ العظيم لشوارع المدينة.)
أتذكر حين كنت تغلق عن عيني رؤية النور الذي يشق الليل ويحل بدلا منه ظلام ثقيل، أودعتني سجن معبدي وسلبت مني قوتي، كنت ابنتك لكنك حبستني مثل آبق حقير ، كيف سأسامحك يا أبي، يا ملك آكاد العظيم.
لم تسمعني قبلا، وأنا الوحيدة التي تسمعك الآن تقول:
- تلك الطبول لاتتوقف عن الطرق برأسي.
وأكاد اسمع مثلك قرع الطبول
دموعي لاتتوقف، ودموعك تنساب مثل نهر من عينيك المغمضتين.
وهل توقف الجنود عن البكاء على أطفالهم وهم يكبرون بعيدا عنهم . وعلى زوجاتهم وهن يثمرن لعيون الآخرين، أليس عليك ذنبهم؟!
ستقول لي هو صهد الحرب حين تستعر ولاتخمد، وهي رحى الحصار حين تطحن حبات العيون والقلوب، لكنك تعرف أن العلة ليست في المعلول .
أسمعك تتمتم بانكسار :
أيها الإله!
إن كنت موجودا!
أوقف هذا الزحف الذي يضج حولي وفي إهابي فلم يعد هناك متسع للألم .
فيا أبي هل نضج جلدك من سعير السياط وصرخات المعذبين، وآهات الجائعين والمحرومين ،
هل ألم كل هؤلاء ستحمله معك إلى موئلك الأخير.
وأنتما الواقفان هناك، من أنتما ؟! لم تحيطان بأبي عن يمينه وعن يساره..
ومابال عيونكما تمتلئ سخرية؟! أنت أيها القابع عند رأسه لم تدعوه بابن الكاهنة؟!
وأنت يا من تسل الحياة من قدميه لم تسميه بابن الماء؟!
ألا تعرفون من هو ؟!
هو أبي
رغم أنه اقتاد خصومه المهزومين مصفدين وعرضهم عرايا أمام الشعب في كل الأراضي التي نزعها منهم .
هو سيدي ومولاي الذي قطع رؤوس من تجرأوا ودنسوا تراب أكاد العظيم .
أبي حامي عرين آكاد وملكها و عرابها المقدس.
هو الذي قضى على سطوة ملك سومر ومرغ رأسه بتراب أكاد، و هو الذي ملأ حكمه الدنيا وحاز كنوزها الثمينة
إلى أين تصحبونه؟!
وماهذه الطبقات التي أراكم تطيرون به فيها ؟!
طبقات السماء التي حدثني ووصفها لي سادتي الكهنة كثيرا حين كنت ربيبتهم وموضع أسرارهم
رغم أن أبي لم يكن يؤمن بوجودها.
هاهي تنفتح لي الآن وها أنا أراها تتسع وتتسع، بينما أراقبه على فراشه وقد حل به الضيق و ارتسم على وجهه تعبير رعب مخيف،
وهاتيك الكائنات الشفافة بأجنحة كثيرة، هم سادة معبدي كنت أسمعهم ولا أراهم ، نورهم يبدد طبقات الظلام ويجلي حلك الأفق.
فأرى تلك الكائنات تقذف أبي بنظراتها الغضبى
وهي تهمهم بحنق:
- أرأيت؟!
هذه السماء على اتساعها ستمتلأ بمن رميت بهم للموت ينهشهم بلا رحمة، وأما أنت فستتدحرج على أسياخ نار من هنا الى آخر طبقات الأرض .
الأجنحة الضخمة تهشم روحه ، وتهوي به من عل
وأنا أرصده على فراش احتضاره تتضخم رأسه وتهمد أطرافه و مع ارتعاده وتشنجات نزعه، تعود الأطياف لتملأ غرفته من جديد وهي تتكاثر والسماء تشهق روحه وتستعد لزفرها في عود ناري جديد .
وأنا
( أنا الملكة التي ابتكرت النواح، مركب النواح سيرسو في أرض غريبة، وهناك سأموت
وأنا أنشد الأغنية المقدسة.)
أقف على بابه انتحب.
هامش
انخيدوانا او انهيدوانا ابنة الملك الآكادي صارغون أو سرجون العظيم
وكانت كاهنة وهي أول شاعرة وصل لنا شعرها من الحضارات القديمة.
الكلمات بين قوسين هي من شعر انخيدوانا .